الكتاتونيا

الكتاتونيا

الكتاتونيا

 تونس اليوم -

الكتاتونيا

بقلم : معتز بالله عبد الفتاح

كتب الدكتور محمد طه، استشارى ومدرس الطب النفسى كلاماً مهماً عن علاقاتنا الإنسانية وتأثيرها على صحتنا النفسية، يقول فيه:

أنت عارف أن الجنين فى رحم أمه بيحس وبيستقبل رسايل كتير من العالم الخارجى.. بيوصل له حنان أمه ومشاعرها.. بيحس هى متضايقة والّا فرحانة، بيعرف هى مطمنة والّا قلقانة، بيوصل له هى بتحبه والّا لأ، قابلة وجوده والّا رافضاه، عاوزاه والّا جه غلطة.. هو بيحس ويستقبل كل ده بطرق كتير جداً، أبسطها الهرمونات اللى بيفرزها جسم الأم فى حالاتها النفسية المختلفة وبتوصل للجنين من خلال المشيمة.. يعنى حتى جوه الرحم.. ممكن الجنين يحس بالحب والعطف والقبول والأمان.. أو يحس بالكره والجفاء والرفض والتهديد.. ده مش كلام فلسفى ولا أسطورى.. ده كلام علمى عليه آلاف الأبحاث والدلائل الحديثة..

المهم.. تصوّر بقى لو حد حصل له صدمة نفسية بأى شكل من اللى وصفناهم، وكل ما عقله يحاول يرجع لآخر مرحلة عمرية حس فيها بأمان مايلاقيش، ولا حتى فى الرحم وهو جنين.. عارف هيعمل إيه؟ عارف إيه القرار اللى عقله هياخده (بشكل غير واعٍ طبعاً) وينفذه.. قرار فى منتهى الصعوبة والقسوة.. قرار أن ينفصل عن العالم.. يخاصم الحياة.. يقفل على نفسه أبواب نفسه.. هو مش هينتحر أو يموّت نفسه.. لا.. هو هيعمل حاجة أصعب.. هو هيعيش ميت.. هيبقى زيه زى أى نبات أو جماد.. لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتكلم.. تشيله من هنا وتحطه هنا.. مايتحكمش فى أعصاب وعضلات جسمه، ولا حتى فى دخوله الحمام.. لو سيبته واقف هيفضل واقف.. لو خليته قاعد هيفضل قاعد.. أنت قدام شخص قرر يفارق الحياة وهو عايش.. بيسموا ده فى الطب النفسى كتاتونيا Catatonia، وهى كلمة من أصل يونانى معناها جثة.. بنى آدم قرر يتحول لجثة.. علشان ده الوضع الوحيد اللى بيحس فيه بالأمان.. وضع الخروج من الحياة بكل سخافتها وضراوتها ومخاوفها.. هو مش بس بيغيب بوعيه زى حالات الهستيريا والانشقاق.. لا.. ده كمان بيغيب عن العالم بجسمه.. وبمشاعره.. وبأحاسيسه..

الكتاتونيا أصعب مرحلة من المراحل اللى ممكن يوصل لها أى مريض نفسى، وعلاجها أصعب منها، وفهمها والوصول لمعانيها المختلفة من مريض لمريض أصعب وأصعب.. فى جلسة مع إحدى مريضات الكتاتونيا بعد علاجها.. قالت المريضة للمعالج بتاعها (الإيطالى سيلفانو آريتى) إن من ضمن أسباب مرضها بعدم الحركة والانفصال عن العالم شعورها بالذنب، لأنها كانت متصوّرة أن أى حركة هتعملها ولو بسيطة هتلخبط موازين الكون كله.. كلام شكله غريب.. لكن فى الحقيقة المريضة دى وصل لها طول عمرها أن كل أفعالها غلط.. وكل كلامها بيعمل مشاكل.. وكل تصرفاتها بتلخبط الدنيا.. اللى حواليها وصلوا لها شعور عميق وساحق بالذنب على كل حاجة.. لدرجة أنها حست أن وجودها نفسه يدعو للشعور بالذنب.. فقرر عقلها الباطن أن يشل هذا الوجود ويوقف نشاطه ويمنعه من عمل كل شىء وأى شىء.. علشان ماتغلطش وماتتعرضش للعقاب.. وماتحسش بالذنب..

الكتاتونيا هى انعدام الحياة لانعدام لحظة أمان واحدة فيها..

الكتاتونيا هى قرار بوقف الوجود.. من شدة الألم والخوف..

الكتاتونيا هى أعمق درجة من درجات الموت النفسى..

لو ليكم أصحاب.. قرّبوا منهم وحبوهم واستقبلوا حبهم.. احفروا ذكرياتكم الحلوة معاهم فى كل خلية فيكم..

لو ليكم أهل.. اقعدوا معاهم واسمعوهم وكلموهم.. سامحوهم واعذروهم.. احضنوهم وحسوا بحضنهم..

لو بتربوا أولادكم.. خلوا فيه بينكم وبينهم لحظات حلوة كتير.. مواقف طيبة فيها قبول وفرحة ورحمة..

علشان فى وقت من الأوقات..

لحظة أمان واحدة.. ممكن تكون هى حائط الصد ضد صدمة نفسية مفاجئة..

موقف طيب بسيط.. ممكن يكون هو درع الحماية قصاد هجوم المرض النفسى وشراسته..

حضن دافى صغير.. ممكن يكون هو مكانك الأخير عند اختفاء كل الأماكن..

كلمة حلوة.. نظرة قرب.. ابتسامة رضا.. ممكن تكون هى الملجأ والملاذ والمنقذ.. وقت طوفان النفس العنيف..

غمض عينك.. حسهم.. افتكرهم.. استرجعهم.. وامسكهم بذاكرتك.. وماتفرطش فيهم أبداً..

ولو قليلين أو مش موجودين.. الحق واصنعهم وعيشهم واستمتع بيهم واحتفظ بيهم جواك.. يمكن يكونوا هما الفرصة الأخيرة..

قبل الرجوع النفسى للخلف..

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكتاتونيا الكتاتونيا



GMT 07:23 2017 السبت ,25 شباط / فبراير

أكثر ما يقلقنى على مصر

GMT 05:23 2017 الأربعاء ,22 شباط / فبراير

من المعلومات إلى القيم والمهارات

GMT 06:34 2017 السبت ,18 شباط / فبراير

جاستن ترودو: رئيس وزراء كندا - الإنسان

GMT 05:38 2017 الخميس ,16 شباط / فبراير

نصائح للوزراء الجدد

GMT 06:07 2017 الثلاثاء ,14 شباط / فبراير

من أمراضنا الأخلاقية

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia