هل يؤسس البرلمان الحالى للممارسة الديمقراطية فى مصر، أم هو مجرد استكمال لبنية الدولة وفقاً لخارطة المستقبل المعلنة فى يوليو ٢٠١٣؟
أرجو أن يكون واضحاً لأعضاء البرلمان أن مهامهم تتخطى مجرد استكمال الدولة وإنما هم مطالبون بأن يعطوا المثل فى الممارسة الديمقراطية التى تضمن حسن إدارة مؤسسات الدولة؛ فلا ديمقراطية حقيقية بلا ديمقراطيين حقيقيين.
دعونا نبدأ بالتأكيد أن مفهوم الديمقراطية مفهوم ملتبس. فخلاف المملكة العربية السعودية، لا يوجد نظام حكم فى العالم لا يدعى قادته ورموزه وصلاً بالديمقراطية بغض النظر عن مدى التزامهم بها. فألمانيا الشرقية كانت تلحق لفظة ديمقراطية باسمها الرسمى، ولا تزال الجزائر فاعلة، كما يتحدث الخليجيون عن «ديمقراطية الصحراء» وابتدع محفوظ نحناح، القيادى الإخوانى الجزائرى، مفهوم الـShuracracy كالبديل الإسلامى عن الديمقراطية العلمانية، وتحدث شيوعيو الاتحاد السوفيتى عن «الديمقراطية المركزية»، وروجت نظم الحزب الواحد فى أفريقيا لفكرة «ديمقراطية اتفاق الرأى» (unitary democracy). وقليلة هى الدول التى لا تنص فى دساتيرها أو وثائقها الرسمية على أنها تتبنى الديمقراطية، بما فى ذلك عراق صدام حسين، وبيرو فوجيمورى، وأوغندا عايدى أمين، وغيرها. ومن هنا حدثت فجوة بين «الشىء» الذى يسمى الديمقراطية، و«المصطلح» الذى أصبح أسيراً للاستخدام غير الرشيد إعلامياً وسياسياً.
وكجزء من تحديد معنى الديمقراطية، أزعم أن «الديمقراطية وأخواتها» سبع. هناك الديمقراطية الراسخة المستقرة ولها عناصر ستة، إن غاب واحد منها انحرفت لإحدى أخواتها. وهذا الانحراف يعنى خطوة أو أكثر نحو التسلطية. وهذه العناصر هى:
1- حق التصويت مكفول للجميع بغض النظر عن النوع والعرق والدين، وإن شاب هذه الخصيصة عيب صارت «ديمقراطية انتقائية» (شرط الشمول Comprehensiveness condition). وكان المثال على ذلك الولايات المتحدة حتى عام 1920 ثم 1965، وسويسرا حتى عام 1971، وكانتا منعتا المرأة من المشاركة فى الانتخابات وبعض الأقليات الأخرى.
2- منافسة مكفولة لكل القوى السياسية التى تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، وإن شاب هذه الخصيصة عيب صارت «ديمقراطية غير تنافسية» (شرط التنافس Competition condition)، وعلى هذا فإن منع الإسلاميين المعتدلين فى الدول العربية من الدخول فى الانتخابات بحجة أنهم جميعاً إرهابيون، أو منع العلمانيين من الدخول فى السباق من أجل مقاعد البرلمان فى إيران أو السودان ينال من شرط التنافسية.
3- احترام للحقوق المدنية، وإلا تتحول إلى «ديمقراطية غير ليبرالية» (شرط الليبرالية Liberalism condition)، وهو مثال نظامى الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا وناميبيا، حيث كانت تجرى انتخابات حرة ونزيهة وتداول سلمى للسلطة بين البيض فى ظل غياب واضح للحقوق والحريات المدنية لقطاع واسع من المواطنين الأفارقة.
4- وجود تعدد لمراكز صنع القرار بما يتضمنه هذا من مساءلة ومسئوليات متوازنة، وإلا تحولت إلى «ديمقراطية انتخابية» (شرط المساءلة Accountability condition)، والمثال على ذلك روسيا الاتحادية تحت ظل الرئيسين يلتسن وبوتين، حيث تجرى انتخابات فيها بدرجة واضحة من التنافس بيد أنها لم تضع أياً منهما تحت مسئولية حقيقية أمام البرلمان أو حتى العودة إليه فى كثير من القرارات.
5- قبول جميع القوى السياسية لقواعد اللعبة الديمقراطية بغض النظر عن نتائجها وإلا تحولت إلى ديمقراطية غير مستقرة (شرط الاستدامة Sustainability condition)، فالتاريخ شهد عدداً من القوى السياسية التى وصلت إلى سدة الحكم فى انتخابات حرة نزيهة أو بوعود بإقامة نظم ديمقراطية لكنها لم تف بوعودها مثل هتلر فى ألمانيا النازية، أو جبهة الإنقاذ فى الجزائر، أو نظام حكم مشرف فى باكستان؛ فمع انتفاء شرط الاستدامة تنتفى قدرة الديمقراطية على إنتاج آثارها الإيجابية.
6- المصدر الوحيد للشرعية هو أصوات الناخبين، ولا يقبل الناخبون بغير أصواتهم الحرة مصدراً للشرعية وإلا تحولت إلى ديمقراطية نخبوية أو ديمقراطية بلا ديمقراطيين (شرط الثقافة الديمقراطية Democratic Culture condition)، فالتاريخ يشهد بالعديد من حالات التراجع عن الديمقراطية بعد إقرارها لصالح نخب عسكرية تتبنى شعارات شعبوية مثل مصر والعراق فى أعقاب الحقبتين الليبراليتين تحت الاحتلال، والأرجنتين والبرازيل فى السبعينات وحتى منتصف الثمانينات.
إذاً الديمقراطية الراسخة المستقرة هى التى تجمع العناصر الستة. وحقيقة فإن أدبيات علم السياسة زخرت بنقاشات مستفيضة بشأن إطلاق لفظة ديمقراطية على نظام حكم يفتقد واحداً من هذه العناصر. فهناك من يرى أن الديمقراطية إما أن توجد أو لا توجد. فما قيمة «ديمقراطية» مع غياب تنافس حقيقى بين القوى السياسية التى يتكون منها المجتمع بسبب سيطرة حزب واحد على الحكم عن طريق التزوير والترهيب؟ وما هى جدوى إطلاق لفظة «ديمقراطية» على نظام حكم تأبى قواه السياسية احترام إرادة الناخبين إذا أتوا بمنافسيهم إلى الحكم؟
ورغماً عن وجاهة الطرح السابق، فإن منطق «إما ديمقراطية أو لا ديمقراطية» له قيمة معيارية مفيدة لكن قوته التحليلية ضعيفة. فلا يمكن أن توضع نظم مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا الاتحادية وإيران ودول الخليج والعراق والجزائر فى نفس الخانة لأنهم لا يملكون عنصراً واحداً أو أكثر من العناصر السابقة.
فى الديمقراطيات الراسخة توجد ديمقراطية، ويوجد ديمقراطيون، على عيوب فى التطبيق. أما فى منطقتنا العربية، فهناك كلام عن الديمقراطية من أشخاص غير ديمقراطيين يتعاملون مع الديمقراطية بانتهازية فيكون الشكل ديمقراطياً والمحتوى انتهازياً.
الكرة فى ملعب النواب، لا سيما مع دستور يعطيهم الكثير من الصلاحيات وبيئة سياسية متطلعة لممارسات أرقى مما كنا عليه من قبل.
وعلى عقلاء البرلمان، وهم الأغلبية، ألا يتركوا لمحبى الظهور ومحدثى السياسة أن يسيئوا للبرلمان وللتجربة كلها.
صورة البرلمان الذهنية عند المواطنين لا تقل أهمية عن أدائه وهى مسئولية مباشرة على جميع الأعضاء.
والله المستعان