حسن نافعة
يبدو واضحا لكل ذى عينين أن قطاعات عريضة من الشعب المصرى، سواء على مستوى النخب السياسية النشطة أو على مستوى «الأغلبية الصامتة»، أصبحت أكثر اقتناعا بأن جماعة الإخوان المسلمين ليس لديها من الخبرات ما يؤهلها لإدارة الدولة بكفاءة وبطريقة تبعث على الطمأنينة. ولأن هذه الجماعة سقطت فى اختبار الحكم، ولم تتمكن من انتهاز فرصة نادرة أتاحتها لها ثورة شعبية لم تقم هى بتفجيرها، يستشعر كثيرون الآن مدى الحاجة للبحث عن بديل. غير أن الاقتناع بعجز الطرف المسؤول عن إدارة الشأن العام لا يعنى بالضرورة وجود بديل جاهز أو مقنع لتسلم الحكم، فبوسع أى متابع للجدل الدائر على الساحة السياسية المصرية أن يكتشف بسهولة أن الخلاف بين القوى السياسية المناوئة لحكم الإخوان ما زال محتدما بينها حول مسألتين أساسيتين ومتلازمتين بالضرورة: كيفية إنهاء حكم الجماعة، وشكل النظام البديل.
يلاحظ هنا أن الجدل ما زال محتدما بين تيارين: أحدهما ثورى أو عنيف والآخر إصلاحى أو سلمى، وأن كلا منهما ينقسم بدوره إلى فريقين فرعيين، فالتيار الثورى أو العنيف ينقسم إلى فريقين: أحدهما يطالب بثورة جديدة تطيح بحكم الإخوان، وتصحح مسار الثورة الأصلية، والآخر يرى أن الشروط الموضوعية للقيام بثورة ليست متوافرة، ومن ثم فلا مناص من الاستعانة بالجيش للإطاحة بالجماعة، أما التيار الإصلاحى، أو السلمى فينقسم بدوره إلى فريقين: أحدهما يرى أن تغيير النظام الحالى يبدأ بتغيير رأسه، ولذا يطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، والآخر يرى أن مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة غير واقعى، وأن عجلة التغيير يمكن أن تبدأ دونما حاجة لتعديل الخطط القائمة حاليا، أى بالانتخابات النيابية القادمة التى يعتقد أنها ستتم فى أكتوبر القادم. ولكل تيار أو فريق من هؤلاء حجته وحظوظ متباينة من احتمالات النجاح والفشل.
فالتيار الثورى يرى أن جماعة الإخوان المسلمين سرقت ثورة هى من صنع الشعب المصرى كله، وانفردت وحدها، ودون وجه حق، بسلطة تمارسها بطريقة تؤكد حرصها على الاحتفاظ بها، وعدم نيتها التخلى عنها أو تداولها مع غيرها، حتى ولو عبر صناديق الاقتراع، ومن ثم فلن تتركها إلا إذا أجبرت على ذلك، سواء بثورة شعبية جديدة أو حتى بانقلاب عسكرى.
بعبارة أخرى يمكن القول إن هذا التيار يرى أن التغيير العنيف لم يعد خيارا، وإنما أصبح ضرورة. أما أسبابه فى ذلك فهى كثيرة، لكنها تدور فى مجملها حول فكرة أن الرئيس المنتخب وجماعته والفصائل السياسية المتحالفة معه يمارسون السلطة من خلال آليات لا تتسق مع الآليات الطبيعية المنصوص عليها فى القوانين والقواعد الدستورية، ولا يترددون فى اللجوء إلى وسائل استثنائية وأحيانا عنيفة، بدليل: 1- قيام الرئيس المنتخب بإساءة استخدام السلطات والصلاحيات الممنوحة له، بإقدامه على إصدار سلسلة من القرارات الجمهورية أو «الإعلانات الدستورية»، ثم اضطراره لاحقا للتراجع عنها كليا أو جزئيا، إما تحت ضغوط سياسية، أو عقب صدور أحكام قضائية ملزمة، مما تسبب فى ارتباك الحياة السياسية بشدة. 2- قيام الجماعة وأنصارها باستخدام العنف ضد المتظاهرين، والاعتداء عليهم أمام قصر الاتحادية، وتعطيل مؤسسات الدولة ومحاولة منعها من أداء وظائفها، حين قاموا بحصار المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامى، والحشد والتحريض والتآمر ضد مؤسسات وطنية لها مكانتها، كالأزهر والقضاء وغيرها. 3- إصرار الجماعة على الهيمنة المنفردة على مفاصل الدولة من خلال الهيمنة على جهازها الإدارى، ومحاولة تسخيره لخدمة الأهداف السياسية للجماعة.
غير أن هذا التيار يواجه مشكلة هيكلية تتعلق بالآثار الناجمة عن حجم الإرهاق الذى تعانى منه الطبقات ذات المصلحة فى التغيير، وهى الطبقة المتوسطة بشرائحها المختلفة، والطبقات الدنيا التى تعيش عند مستوى أو تحت خط الفقر، وذلك بسبب طول المرحلة الانتقالية من ناحية، وعدم وجود قيادة موحدة يمكن أن تثق فيها وتلتف حولها، لذا يراهن هذا التيار على أمرين لا يخلوان من مخاطر، الأول: تزايد السخط الشعبى، بسبب استمرار تدهور مستوى المعيشة والخدمات، وهو ما قد ينذر بثورة جياع، والثانى: استمرار وتصاعد حالة الفوضى إلى الدرجة التى تهدد مؤسسات الدولة، وهو ما قد يدفع الجيش نحو التدخل، والقيام بانقلاب عسكرى. ولأن اندلاع ثورة جياع أو قيام الجيش بانقلاب عسكرى ينطويان على مخاطر جمة، أعتقد أن الأغلبية الصامتة لن ترجح كفة أى منهما، إلا حين يستبد بها اليأس الكامل من كل الحلول السلمية.
أما التيار الإصلاحى أو السلمى، الذى يرى أن الجماعة وصلت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ومن ثم فلا يجوز تغييرها إلا عبر الوسيلة ذاتها، فيلاحظ أنه لم ييأس بعد من قدرته على إزاحتها بنفس الطريقة، غير أن هذا التيار يبدو منقسما على نفسه إلى فريقين: فريق يرى أن رئيس الدولة ما زال يشكل مركز الثقل الأساسى فى النظام، ومن ثم يطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، لأن الأوضاع الراهنة لا تقبل الانتظار حتى نهاية فترة الولاية الرئاسية الحالية. أما الفريق الآخر فيرى أن المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة تبدو أمرا غير واقعى، ومن ثم يتعين أن يتركز الجهد على الاستعداد لخوض الانتخابات النيابية فى موعدها، إذا ما توافرت لها حدود دنيا من ضمانات النزاهة والشفافية. غير أنه ليس من المتوقع أن تؤدى أى من الحلول المطروحة من جانب أى من هذين الفريقين إلى الإطاحة بجماعة الإخوان أو إلى إنقاذ الثورة. صحيح أن حصول مرشح رئاسى إخوانى على أغلبية الأصوات يبدو أمرا مستبعدا تماما فى الظروف الراهنة، ومن ثم قد تشكل الانتخابات الرئاسية المبكرة حلا مثاليا بالنسبة للمعسكر المناهض لجماعة الإخوان، إلا أن احتمال قبول الجماعة به أو فرضه عليها يعد أمرا مستبعدا تماما. ولأن حصول المعسكر المناوئ للجماعة على أغلبية المقاعد فى انتخابات المجلس النيابى القادمة يبدو ضئيل الاحتمال، إن لم يكن مستبعدا بالكامل، فإن التعويل عليه لإحداث التغيير المنشود ليس مضمونا، خصوصا أن رئيس الدولة الإخوانى سيظل فى موقعه لسنوات ثلاث أخرى.
فى سياق كهذا تبدو كل الطرق أمام إمكانية إزاحة الإخوان وإنقاذ الثورة مسدودة على المدى القصير، كما تبدو كل الطرق نحو إمكانية نجاح الإخوان وحلفائهم فى الهيمنة على مفاصل الدولة المصرية مسدودة فى الوقت نفسه، لذا تبدو الأمور مرشحة لاتجاه الأوضاع فى مصر نحو مرحلة صعبة جدا تستدعى من الجميع وعيا استثنائيا بالمخاطر الراهنة، خصوصا فى ظل أوضاع إقليمية ودولية ملبدة بالغيوم ومفتوحة على كل الاحتمالات، بما فى ذلك احتمال انفجار حرب إقليمية شاملة، فعلى المعسكر المناهض لجماعة الإخوان أن يدرك أنه لن يكون بإمكانه استئصال الجماعة من المشهد السياسى، حتى فى حال تآكل وزنها الانتخابى، وهو أمر مؤكد على كل حال، وعلى الجماعة أن تدرك أيضا أن مصر أكبر منها بكثير، وأن إصرارها على الهيمنة على مفاصل الدولة سيدخل البلاد فى دوامة قد لا تخرج البلاد سليمة منها أبدا.
الحل النموذجى فى هذه الفترة هو تشكيل حكومة وحدة وطنية تعالج قضيتى الاقتصاد والأمن، وتذلل العقبات التى تعترض طريق إجراء انتخابات نيابية فى وقت لاحق، وفى ظل ضمانات مقبولة من الجميع. ولأن السياسة لا تعرف الحلول النموذجية، فمن المتوقع أن يشتد الصراع فى المرحلة القادمة، وأن يزداد الاستقطاب القائم حاليا حدة وخطورة، فهل تدرك جبهة الإنقاذ ذلك، وهل يمكن أن تنظم صفوفها بطريقة أفضل لصنع بديل مقبول شعبيا؟
نقلا عن جريدة المصري اليوم