حسن نافعة
أواصل فى هذا المقال ما بدأته فى المقالات السابقة، بإعادة قراءة دراسة الدبلوماسى الإسرائيلى السابق، أوديد ينون، التى تعبر بدقة عما يدور داخل العقل الصهيونى بشأن منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص الدول المحيطة بإسرائيل، والمنطقة الممتدة من المغرب شرقاً حتى أفغانستان غرباً ومن تركيا شمالاً حتى باب المندب جنوباً.
ويبدو أن ما جرى للبنان جعله مطمئناً تماماً إلى هذه النتيجة. فلبنان كان فى ذلك الوقت (1982) دولة منهارة اقتصادياً ومقسمة، بفعل الحرب الأهلية المستعرة فيه منذ منتصف السبعينيات، إلى خمس مناطق، تقف على رأس كل منها سلطة شبه سيادية، الأولى: مسيحية فى الشمال، وتتزعمها أسرة فرنجية، التى تؤيدها سوريا، والثانية: فى الشرق وتقع تحت الاحتلال السورى المباشر، والثالثة: مسيحية فى الوسط تسيطر عليها «القوات اللبنانية» المسيحية، والرابعة: بمحاذاة نهر الليطانى وتسيطر عليها منظمة التحرير الفلسطينية، والخامسة: فى الجنوب المحاذى لإسرائيل ويسيطر عليها الرائد سعد حداد، رغم أغلبيتها الشيعية.
ومن الواضح أن ينون كان على قناعة تامة بأنه بوسع إسرائيل تحويل لبنان إلى خمس دويلات طائفية إذا نجحت فى كسر منظمة التحرير الفلسطينية عسكرياً، وفى إضعاف الوجود السورى هناك «وهو ما جرت محاولته فعلًا عندما أقدمت إسرائيل على غزو لبنان بعد أشهر قليلة من نشر الدراسة».
وإذا كان لبنان يبدو دولة منتهية فى ذلك الوقت، فإن سوريا والعراق كانتا تثيران القلق بسبب قوتهما العسكرية، ومع ذلك فقد بدا ينون مطمئناً تماماً إلى أنهما مرشحتان بدورهما للانهيار بسبب عوامل التحلل والتفتت الكامنة فى بنيتهما السياسية والاجتماعية. فقد اعتقد أن سوريا لا تختلف، من المنظور الطائفى، كثيراً عن لبنان، رغم وجود نظام عسكرى قوى فيها لأنه نظام تسيطر عليه أقلية لا تتجاوز 12 فى المائة من السكان، وبالتالى لن يكون باستطاعته أن يحتوى المعارضة السنية القوية. ولأنه اعتقد أن لبنان سيتفكك رسمياً لا محالة خلال فترة قصيرة، ربما لا تتجاوز شهوراً عدة، توقع ينون أن سوريا ستتبعه حتما على الطريق نفسه، ولن يكون بوسعها أن تقاوم طويلا تلك العملية التاريخية الحتمية.
أما فيما يتعلق بالعراق، فقد اعتقد ينون أن تركيبته الطائفية لا تختلف كثيرا عن الدول المحيطة به: أقلية سنية تسيطر على النظام السياسى وتوجهه إلى حيث تريد، وهو أمر لن يكون بوسع الأغلبية الشيعية أو الأقلية الكردية أن تقبل به على الدوام، ولولا ما يتمتع به النظام الحاكم من قوة عسكرية وموارد نفطية كبيرة لما أصبح حال العراق أفضل كثيرا من حال لبنان من قبل أو حال سوريا. ومع ذلك اعتقد ينون أن المستجدات التى طرأت على الوضع الإقليمى، خصوصاً بعد اندلاع الثورة الإسلامية فى إيران ونشوب الحرب العراقية- الإيرانية، تدفع فى اتجاه تعميق التناقضات الطائفية، وربما تؤدى إلى اندلاع حرب أهلية، وبدا واضحاً أن ينون يتمنى اندلاعها فى أقرب وقت بل ويستعجلها. ولأنه كان يدرك أن قوة العراق العسكرية تشكل تهديداً استراتيجياً خطيراً على أمن إسرائيل، فلم يكن على استعداد لقبول تسامح إسرائيل مع استمرار وضع كهذا، لكنه بدا مطمئناً وعلى ثقة تامة من أن العراق لن يخرج من حربه مع إيران معافى، وأن ضعفه المحتمل سينتهى به فى الأحوال كافة إلى التفتت إلى ثلاث دويلات، على الأقل، إحداها سنية فى الوسط والأخرى شيعية فى الجنوب والثالثة كردية فى الشمال.
1- المغرب والخليج العربى فى مخطط التفتيت
يبدو للوهلة الأولى أن الاستراتيجية التى اقترحها ينون ركزت جل اهتمامها على الدول المجاورة لإسرائيل، خصوصاً مصر ودول المشرق العربى. غير أن هذا الانطباع السريع سرعان ما يتبدد عند أى قراءة متأنية لدراسة ينون. فالواقع أن الاستراتيجية التى طرحها فى هذه الدراسة شملت منطقة تمتد من المغرب شرقاً حتى أفغانستان غرباً، ومن تركيا شمالاً حتى باب المندب جنوباً. صحيح أنه أولى اهتمامه الأكبر لمصر ودول المشرق العربى، غير أن هذا الاهتمام يعود إلى أسباب أمنية واستراتيجية تبدو بديهية. فاستمرار وجود مصر كدولة مركزية متماسكة اجتماعياً ومتطورة اقتصادياً يشكل، فى رؤية ينون، تهديداً مباشراً على أمن إسرائيل فى الأجلين القصير والمتوسط، كما أن تماسك المشرق العربى ووحدته يمكن أن يعوقا مخططات إسرائيل فى التوسع جغرافياً وديموجرافياً فى منطقة تعتبرها امتداداً عضوياً لها وجزءاً من مجالها الحيوى.
وإذا كانت بقية الدول العربية والإسلامية لا تشكل، من وجهة نظر ينون، تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل على الأمدين القريب والمتوسط، بسبب بعدها الجغرافى واحتوائها على تناقضات داخلية تضمن انهيارها الذاتى على المدى الطويل، فإن ذلك لا يتعين، من وجهة نظره، أن يكون مبرراً لكى تهمل إسرائيل هذه الدول أو تغض الطرف عما يجرى فيها وحولها من صراعات. ولا جدال عندى فى أن عين إسرائيل الساهرة كانت ولاتزال مثبتة على منطقة الخليج العربى بالذات، وترى فيها ما تعتبره جائزة كبرى تنتظر أن تسقط فى حجرها فى نهاية المطاف.
فمنطقة الخليج العربى هى، على حد تعبير ينون، «بناء هش ليس فيه سوى النفط». ورغم أن هذه المنطقة تحتوى على «أكبر مستودع للنفط والمال»، فإن المستفيد منه، كما يقول بالحرف الواحد «أقليات محدودة لا تستند إلى قاعد شعبية عريضة وأمن داخلى». وانطلاقاً من هذه الرؤية المحددة يميز ينون بين ثلاثة أنواع مختلفة من التناقضات يقول إنها كامنة فى بنيتها، فهناك:
أ- أقليات مذهبية، سنية فى أغلبها، تتحكم فى أغلبية من مذاهب أخرى، شيعية فى المقام الأول أو مختلطة، كما هو الحال فى البحرين والإمارات وعمان وغيرها.
ب- أقليات من السكان الأصليين تتحكم فى أغلبية ضخمة من مهاجرين أجانب يبلغ تعدادهم فى بعض بلدان الخليج العربى ما يقرب أو يزيد أحياناً على 80 فى المئة من إجمالى السكان.
ج- جيوش وطنية ضعيفة لا تستطيع تأمين أنظمة الحكم القائمة ضد أخطار كثيرة تحدق بها من الداخل ومن الخارج على السواء، رغم كميات الأسلحة الهائلة التى تحصل عليها سنوياً من الغرب.
يعتقد ينون أن وجود هذا الكم الكبير من التناقضات الرئيسية فى دول الخليج العربى ليس له سوى معنى واحد، هو أن تكوين هذه الدول قائم على غير أساس، وأنها معرضة بالكامل لخطر الانهيار تحت وطأة الضغوط والأخطار الداخلية والخارجية، وأن هذا الانهيار قادم لا محالة، سواء استمر الازدهار الاقتصادى الناجم عن النفط أم لم يستمر، وذلك لسبب بسيط هو أن الجيوش القائمة فى هذه الدول الهشة لا تستطيع أن تضمن بقاءها واستمرارها.
أما منطقة المغرب العربى فتعج، فى رأى ينون، بمتناقضات من نوع مختلف نسبياً، فهناك:
أ- تناقضات عرقية بين العرب والبربر فى معظم دول المغرب العربى، وصلت أحياناً إلى حد الحرب الأهلية، كما كان الحال فى الجزائر، على سبيل المثال.
ب- تحديات عويصة يطرحها تطرف إسلامى بدا واضحاً أنه يهدد عدداً من أنظمة الحكم القائمة فى هذه البلاد «مثل تونس، التى كانت فى ذلك الوقت تبدو أكثر بلدان المغرب العربى عرضة لتهديد التطرف الإسلامى».
ج- صراعات بينية تتخذ من الخلافات حول ترسيم الحدود بين الدول أو من المشاكل الناجمة عن الإرث الاستعمارى «مثل مشكلة الصحراء الغربية» وسيلة أو ذريعة للاقتتال، وهو ما حدث فعلاً بين المغرب والجزائر.
فإذا أضيفت إلى هذه الأنواع المختلفة من التناقضات تناقضات أخرى تتعلق بما تعانيه دول المغرب العربى من مشاكل تقليدية تجتاح دول العالم الثالث ككل، فالأرجح، كما يؤكد ينون، ألا تتمكن هذه الدول من الصمود وأن تنهار وتتفتت بدورها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن استراتيجية التفتيت، التى طرحها ينون فى دراسته عام 1982، لا تبدو معنية «بالعالم العربى» فقط، أى بالدول الأعضاء فى جامعة الدول العربية، أو حتى بمنطقة «الشرق الأوسط» بمعناها الجغرافى الضيق، وإنما اهتمت بمجموعة هائلة من الدول تشمل، إضافة إلى الدول العربية، جميع الدول الإسلامية فى المنطقة، منها إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، وذلك لسبب بسيط هو أن إسرائيل تعتقد أن كل دولة عربية أو إسلامية تعد تهديداً فعلياً أو محتملاً لها، ومن ثم يتعين عليها أن تواجهه. لذا فإن استراتيجية إسرائيل لتفتيت المنطقة لا تقتصر على الدول العربية فقط وإنما تشمل الدول الإسلامية أيضاً.
بقى أن نستخلص فى مقالة أخيرة الدروس المستفادة من هذه الدراسة بعد أكثر من ثلاثين عاماً على نشرها، وفى ضوء «ثورات الربيع العربى».