حسن نافعة
أعتذر عن قطع سلسلة المقالات التى بدأتها منذ أسبوعين حول «المشروع الصهيونى لتفتيت المنطقة»، والتى تحاول تقديم قراءة جديدة لدراسة قديمة نشرها أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين نشرها عام 1982 وبدت فى حينها أقرب ما تكون إلى خطة صهيونية بعيدة المدى منها إلى دراسة أكاديمية صرفة. ولأننى تلقيت رسائل عديدة من قراء عبروا عن قلقهم الشديد مما يجرى فى مصر منذ مساء الجمعة الماضى، فقد وجدت أنه قد يكون من الملائم تخصيص مقال اليوم للتعليق على أسباب ودلالات ما وقع، خصوصا أنه ما زال يتفاعل على الساحة بقوة.
دعونا نتفق أولا على أن كفاءة أى نظام سياسى تتوقف على قدرته ليس فقط على القيام بوظائفه الحيوية، وإنما أيضا على قراءة صحيحة لما يجرى على أرض الواقع بطريقة تمكنه من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنب وقوعه فى أزمات كبرى فى المستقبل قد تهدد وجوده ذاته. ولأن النظام الذى سقط رأسه اتسم بقدر كبير من البلادة حال دون تمكنه من القراءة الصحيحة لما يجرى على أرض الواقع، وبقدر هائل من العناد حال دون تمكنه من طرح حلول ملائمة فى الوقت المناسب، فقد كان من الطبيعى أن يتهاوى ككومة من ورق بمجرد خروج الشعب إلى الميدان معلنا عن رفضه للسياسات القائمة ولإظهار تصميمه على إحداث تغيير. ولا جدال فى أن عبارة «خليهم يتسلوا»، والتى نطق بها حسنى مبارك فى أول خطاب له أمام برلمان كان يدرك يقينا أنه جاء عبر انتخابات مزورة، جسدت بلادة النظام وعناده فى أقصى صورهما. فلا جدال فى أن هذه البلادة وذاك العناد هما ما دفعا بالنخبة الحاكمة آنذاك للاعتقاد بأن بمقدورها تمرير مشروع شيطانى لتوريث السلطة دون عناء، لذا لم تشعر تلك النخبة المغيبة والعنيدة بالكارثة إلا بعد وقوعها.
من المؤكد أن النخبة التى تحكم مصر الآن تختلف عن النخبة الحاكمة فى النظام السابق، فقد جاءت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وليس لدى رئيسها حتى الآن مشروع لتوريث السلطة بالدم، وربما تكون أقل فسادا وأكثر استعدادا للتضحية فى سبيل وطنها أو عقيدتها. ومع ذلك فإن سلوكها السياسى حتى الآن يقطع بأنها لا تقل بلادة وعنادا عن النخبة التى ثار الشعب عليها، فهى تتصرف وكأنها تملك الحقيقة المطلقة، وتنظر إلى «الآخر» المختلف معها سياسيا باعتباره إما جاهل أو عميل أو حتى كافر، وتعتقد أن حصولها على «الأغلبية» يمنحها الحق فى إدارة البلاد بالطريقة التى تراها دون رقيب أو حسيب وتنكر أن للأقلية حقوقا يتعين أن تحترم. ومن الواضح أن هذه النخبة لم تدرك بعد أنها جاءت بعد ثورة عظيمة لم تقدها ولم تلحق بها إلا متأخرا، وأن لهذه الثورة مطالب محددة فى العيش والحرية والكرامة الإنسانية لابد وأن تتحول إلى واقع ملموس ومعاش على الأرض، وأن الشعب الذى فجر تلك الثورة العظيمة تغير كثيرا ولن يصبر طويلا على ما كان قد اعتاد أن يصبر عليه من قبل.
لم يكن ما جرى يوم الجمعة الماضى مجرد رد فعل عفوى من جانب فئات اجتماعية أو قوى سياسية محددة، احتجاجا على قرارات أو رفضا لسياسات بعينها، بقدر ما كان تعبيرا عن غضب شعبى عارم من مجمل الطريقة التى تدار بها دولة لا تزال فى مرحلة انتقالية أعقبت ثورة تمكنت من إسقاط رأس النظام القديم لكنها لم تتكمن بعد من بناء مؤسسات نظام جديد يتعين أن يحل محله. ولم يكن ما جرى فى هذا اليوم وليد اللحظة الراهنة بقدر ما كان حصيلة أحداث كثيرة تراكمت على مدى ما يقرب من عامين تصرفت إزاءها النخبة الجديدة بطريقة أدت إلى فقدان قطاعات شعبية واسعة للثقة فيها. فقد باتت متهمة، عن حق أو بدون وجه حق، بأنها تسعى للهيمنة المنفردة على مفاتيح السلطة لاستخدامها كأداة لبناء مؤسسات نظام على مقاسها هى، دون أى مراعاة أو احترام لحقوق الآخرين. الأخطر من ذلك تنامى الاعتقاد بأن النخبة الجديدة تريد أن تنصب من نفسها حاميا وحارسا وحيدا على العقيدة وراحت تفسر الدين على هواها هى وتصر على فرض هذا التفسير الخاص على الآخرين. ولا جدال فى أن قطاعات شعبية واسعة أحست بقلق شديد وهى تشاهد أحد شيوخ الأزهر وهو يذرف الدمع فى أحد البرامج الحوارية خوفا على هذه المؤسسة الوسطية العريقة من تطرف جهلاء وحمقى يسعون للسيطرة عليها. ولأن هذه القطاعات باتت أكثر اقتناعا بأن النخبة الحاكمة الجديدة لن تسمح بتداول حقيقى للسلطة، حتى عبر صناديق الانتخاب، وأنها جاءت لتبقى، فقد بدأت ترى فيها نسخة مكررة من نظام لا يمكن إسقاطه إلا بالشارع، وهنا مكمن الخطورة.
لا يمكن لأى وطنى مخلص أن يقبل باستخدام العنف وسيلة للتغيير، مهما كانت مبرراته. وقد حذرت فى زاوية «وجهة نظر» الجمعة الماضى تحت عنوان «تصحيح المسار» من اللجوء إلى أى شكل من أشكال العنف، ولو بإلقاء الطوب والحجارة أو اقتحام أسوار المبانى أو تحطيم الحوائط والجدران عنوة. غير أن الوضع السياسى والأمنى فى مصر بات على درجة من السيولة لم تعد تسمح بتحديد الأطراف التى تلجأ لاستخدام العنف، ناهيك عن تقديمها للمحاكمة. لذلك فمن المتوقع أن يستمر نزيف الدم وأن تتفرق مسؤوليته بين القبائل والاكتفاء بتوجيه الاتهام إلى «طرف ثالث» ما زال غامضا ومجهولا.
بلادة النخبة الحاكمة حاليا تتجلى فى عجزها التام عن قراءة صحيحة لحقيقة ما يجرى فى مصر الآن، وإصرارها على التعامل مع المحتجين الغاضبين والمتظاهرين فى الشوارع باعتبارهم مجرد قلة «مندسة» أو «ضالة» أو «عميلة». ويكفى أن نلقى نظرة عابرة على أمور كثيرة لندرك إلى أى حد وصلت درجة هذه البلادة. انظر مثلا تشكيل حكومة هشام قنديل العاجزة سياسيا وفنيا، وعلى الطريقة التى صاغت بها الجمعية التأسيسية بعض مواد الدستور حين فضحها الشيخ ياسر برهامى، وعلى طريقة اتخاذ القرارات فى «مؤسسة الرئاسة» حين فضحتها استقالات جماعية من «هيئة مستشارين» لم تكن سوى «خيال مآتة». أما عناد هذه النخبة فقد تجلى بوضوح فى إصرارها على أنها تعبير عن الأغلبية وأنها جاءت عبر صناديق الاقتراع وبالتالى فعلى من يريد التغيير أن ينتظر إلى أن تقول الصناديق كلمتها فى الوقت المناسب.
تعيش مصر أزمة سياسية كبرى تدفع بها نحو حافة هاوية بسبب وجود أزمة ثقة عميقة مع النخبة الحاكمة حاليا. وحين تمر الدول الديمقراطية بأزمات مشابهة تحتكم النخبة الحاكمة إلى صناديق وتقرر إجراء «انتخابات مبكرة». فإذا كان الدكتور مرسى يرى أنه ما زال يتمتع بثقة الشعب، فلماذا يستبعد فكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة. ولماذا تدعى السلطة الحاكمة دائما أن الشعب هو الحكم، ثم تعود عندما تطالب المعارضة بالاحتكام إلى الشعب لتتهمها بتدبير مؤامرة لإسقاط الرئيس؟ أليس الشعب الذى اختار الرئيس هو نفس الشعب الذى سيتم الاحتكام إليه؟ وكم من الشهداء يتعين أن يسقطوا قبل أن تتخلى السلطة الحاكمة عن بلادتها وعنادها؟
نقلاً عن جريدة " المصري اليوم " .