حسن نافعة
شاع فى الآونة الأخيرة استخدام مصطلح «أخونة الدولة» على نطاق واسع، وراحت وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية تستخدمه بكثافة، وكأنه بات حقيقة مسلما بها. وبينما ترى تيارات معارضة لنظام الحكم القائم حاليا أن «الأخونة» باتت حقيقة قائمة ويجسدها برنامج سياسى تتبناه الجماعة، باعتباره إحدى أهم وسائل تمكينها من تحقيق غايتها فى بناء المجتمع الذى حلم به مؤسسها حسن البنا، بدأ تنفيذه بالفعل منذ اللحظة الأولى لتولى الدكتور مرسى منصب رئاسة الدولة، تؤكد الجماعة والتيارات الموالية لها أنه لا وجود لبرنامج «الأخونة» إلا فى عقول وقلوب مصابة بلوثة العداء المرضى لجماعة الإخوان، وأنه تم صك هذا المصطلح خصيصا لخلق «فزاعة» يمكن استخدامها لإخافة المواطنين وتأليبهم ضد المشروع «الإسلامى» الذى تتبناه الجماعة. والسؤال: أين تقع الحقيقة بين هذين الطرفين المتناقضين؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نتذكر حقيقتين على جانب كبير من الأهمية:
الحقيقة الأولى: أن المخاوف من «أخونة الدولة المصرية» لم تعد مجرد احتمال مثار فى سياق جدل فكرى سياسى قائم منذ فترة طويلة بين جماعة الإخوان وتيارات فكرية وسياسية معادية لها، وإنما تحولت إلى «اتهامات» تضمنتها قوائم نشرت بالفعل، أو جرى التهديد بنشرها، تضم أسماء آلاف أشخاص قيل إنهم ينتمون لجماعة الإخوان وتم تعيينهم حديثا لشغل مواقع حساسة داخل الجهاز الإدارى فى الدولة. وإذا صحت هذه القوائم فمعنى ذلك أن المخاوف من «الأخونة» بدأت تخرج من نطاق الجدل أو الصراع الفكرى أو حتى السياسى، وبدأت تدخل فى إطار «الحقل القانونى» الذى يتطلب معالجة من نوع خاص، فى إطار قوانين ولوائح واختصاصات وصلاحيات قائمة بالفعل، أو يتعين استحداثها فى ضوء الأوضاع التى استجدت فى مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير. الحقيقة الثانية: أن هذه المخاوف لم تعد مقصورة على أوساط من خارج تيارات «الإسلام االسياسى» وإنما امتدت لتشمل فصائل من قلب هذه التيارات نفسها، خصوصا بعد أن أصبح «حزب النور»، ثانى أكبر الأحزاب الإسلامية فى مصر، فى مقدمة الخائفين من هذه «الأخونة» والمؤكدين على وجودها والرافضين لها. وهذا تطور مهم فى الحياة السياسية المصرية يفترض أن يساعد على تخليص الجدل حول «الأخونة» من نكهة دينية حاول البعض أن يضفيها عليه فى البداية، وأن يحوله إلى قضية سياسية خالصة قابلة للنقاش والمعالجة وفق معايير قانونية وسياسية محددة وليس وفق أطروحات فكرية وأيديولوجية تتسم بقدر كبير من العمومية والتفسيرات المتضاربة.
فى ضوء هاتين الحقيقتين يتعين أن نفحص طبيعة المخاوف التى يثيرها مصطلح «الأخونة» لنرى ما إذا كانت حقيقية ولها ما يبررها أم أنها مبالغ فيها. ورغم ما يكتنف هذا المصطلح من غموض فمن الواضح أنه يقصد به إجمالا تلك العملية التى ترمى إلى تمكين أعضاء جماعة الإخوان من الهيمنة المنفردة على مفاصل الدولة المصرية، بالسيطرة على جهازها الإدارى أيضا. ولأن سيطرة أى جماعة عقائدية على الجهاز الإدارى للدولة تثير فى حد ذاتها مخاوف عديدة، فما بالك بجماعة لا يوجد فى تاريخها ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنها تؤمن أو تلتزم فى سلوكها بالقواعد المعمول بها فى النظم الديمقراطية؟ الواضح أن «الأخونة» تعنى هنا أن الجماعة تخطط للبقاء فى السلطة إلى الأبد، ولا تنوى تداولها مع أحد كائنا من كان،
بمن فى ذلك شركاء المشروع الإسلامى. والواقع أن طرح الأمر على هذا النحو يؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين، التى تتولى السلطة التنفيذية من خلال رئيس للجمهورية خرج من بين صفوفها، تفتقر إلى خبرة سياسية كافية تؤهلها لقيادة دولة فى مرحلة انتقالية لم تكتمل فيها بعد عملية بناء مؤسسات ما بعد الثورة. من المعروف أن النظم الديمقراطية تميز بين الجهاز الحكومى، أى الجهاز المسؤول عن رسم وتنفيذ السياسات والذى يمكن أن يكون قابلا للتغيير بتغير النخبة السياسية، وبين الجهاز الإدارى، أى الجهاز المسؤول عن تسيير المؤسسات التى تقوم بتنفيذ تلك السياسات، وهو جهاز يتعين أن يكون على أعلى درجة من الكفاءة الفنية وأن تتوافر له كل المقومات التى تضمن له الاستقرار والاستمرار والقدرة على القيام بالوظائف وتقديم الخدمات التى تقررها المؤسسات المنتخبة،
أيا كان انتماؤها السياسى أو الأيديولوجى. تجدر الإشارة هنا إلى أن الجهاز الإدارى فى أى دولة يتضمن عددا من المؤسسات والأجهزة الحساسة، كالجيش وأجهزة الأمن المختلفة والمؤسسة القضائية وغيرها، لا تستطيع أن تمارس عملها بكفاءة إلا إذا كانت محايدة وبعيدة تماما عن التأثر بالأوضاع السياسية المتقلبة. فى سياق كهذا تبدو مطالبة جماعة الإخوان بأن يكون لها «حصة» فى مثل هذه المؤسسات والأجهزة وكأنها تعوض به ما تعرضت له من اضطهاد، وكأنه قرار بتسييس هذه الأجهزة، وهو أمر مرفوض تماما من حيث المبدأ ويشكل خطرا على استقرار الوطن، أيا كان الحزب الحاكم. لقد ارتكبت جماعة الإخوان المسلمين خطأين كبيرين ساعدا على تثبيت وتعميق وتوسيع نطاق هذه المخاوف،
الأول: أنها نسيت أنها وصلت إلى السلطة بعد ثورة لم تفجرها، وأن مساهمتها فى هذه الثورة وحصولها على أغلبية من خلال الصندوق لا يبرران، أخلاقيا على الأقل، انفرادها بالسلطة، والثانى: أن التأسيس لقواعد إدارة اللعبة السياسية فى نظام جديد يأتى بعد ثورة لا يكون إلا بالتوافق ولا يصلح بالأغلبية. فقاعدة الأغلبية والأقلية يمكن أن تأتى لاحقا، لكن ليس الآن.