حسن نافعة
كنا نتصور أن زمن التنازلات المجانية قد ولى، وأن «ثورات الربيع» ستعيد للنظام العربى الرسمى تماسكه وقدرته على مقاومة الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. لكن يبدو أننا كنا واهمين، فعقب اجتماع عقد مؤخرا فى واشنطن بين جون كيرى، وزير الخارجية الأمريكى، ووفد من وزراء الخارجية العرب بقيادة الشيخ حمد بن جاسم، وزير الخارجية القطرى، صدر تصريح يفيد بأن الدول العربية وافقت على اعتماد «مبدأ تبادل الأراضى» كأساس لترسيم الحدود بين الدول العربية وإسرائيل، وأن هذه الدول تعترف الآن بوجود واقع جديد يتعين أخذه فى الاعتبار عند التفاوض على تسوية نهائية للصراع.
معنى هذا التصريح أن جامعة الدول العربية لم تعد تنظر إلى الأراضى التى استولت عليها إسرائيل عام 67 باعتبارها «أراضى محتلة» يتعين الانسحاب منها، وإنما تعتبرها أراضى «متنازعا عليها»، وبالتالى قابلة للتفاوض والمساومة، ومعناه أيضا أن جامعة الدول العربية بدأت تتبنى رسميا نفس الموقف الإسرائيلى المعلن منذ عام 1967، والرافض تماما للعودة إلى الحدود التى كانت عليها قبل هذا التاريخ. المثير فى الأمر أن الدول العربية قدمت هذا التنازل الضخم مجانا دون أن تحصل من إسرائيل له على أى تنازل مقابل فى موضوع اللاجئين، أو القدس، أو المياه، أو غيرها من القضايا الشائكة التى لاتزال معلقة ومفتوحة. لذا لم يكن غريبا أن يرحب جون كيرى على الفور بموقف عربى جديد يرى فيه، ومعه الحق تماما، «تعديلا للمبادرة العربية» التى أقرتها قمة بيروت عام 1982، و«خطوة كبيرة جدا إلى الأمام»، كما لم يكن غريبا أن يرحب به، فى الوقت نفسه، عدد من القادة الإسرائيليين، فى مقدمتهم تسيبى ليفنى، وزيرة القضاء مسؤولة ملف المفاوضات، التى اعتبرته «خبرا سارا» يستحق أن يزف «إلى كل إسرائيلى يحب السلام».
قد يقول قائل إن ما صرح به الوزير القطرى لا ينطوى على أى جديد ويعبر عن ذات الموقف التفاوضى لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ قبولها باتفاق أوسلو. غير أننى لا أتفق بتاتا مع هذه النظرة السطحية للأمور. فهناك فرق كبير جدا بين الموقف التفاوضى لكل دولة عربية على حدة، قد تجد نفسها لسبب أو لآخر مضطرة للتفاوض مع إسرائيل لاستعادة أرضها المحتلة، وبين الموقف العربى الرسمى العام، الذى يتعين أن يكتفى فى هذه المرحلة بدعم ما يتم التوافق عليه فلسطينيا، وعدم التطوع بتقديم أى تنازلات مجانية اعتادت إسرائيل دائما أن تعتبرها حقا لها وأمرا مسلما به تبنى عليه وتنطلق منه للمطالبة بتقديم تنازلات جديدة إلى أن تصل لغايتها النهائية. لذا ليس من المستبعد أبدا أن تكون الخطوة التالية هى العمل على انتزاع اعتراف عربى بإسرائيل «دولة يهودية» داخل أى حدود ترسمها بنفسها وتعتبرها «آمنة». وليس لهذا الموقف الجديد، فى تقديرى، سوى معنى واحد وهو أن جامعة الدول العربية بدأت، فى ظل القيادة الحالية لدولة قطر، مزادا علنيا لبيع «القضية الفلسطينية» وتصفيتها نهائيا.
فكيف حدث هذا التراجع فى ظل «ربيع عربى» كنا نظنه بداية لإعادة التماسك والصمود وليس الاستسلام الكامل للإرادة الإسرائيلية والأمريكية، وكيف يمكن تفسير هذه المفارقة؟
يبدو أن إسرائيل والولايات المتحدة يتفقان معا على أن العالم العربى يمر الآن بأسوأ أحواله منذ مبادرة القمة العربية فى بيروت عام 2002، التى ردت عليها إسرائيل وقتها بحصار عرفات فى مقر إقامته فى رام الله، تمهيدا لتصفيته وقتله بالسم بعد ذلك، حيث جرت منذ ذلك الحين مياه كثيرة تحت الأنهار العربية. ففى العراق تم تدمير الجيش العراقى وتصفيته عقب إقدام الولايات المتحدة على غزوه واحتلاله، وأصبح العراق نفسه مرشحا للتقسيم والتجزئة. وفى السودان احتدت الصراعات الأهلية وأدت إلى انفصال الجنوب ومازال مرشحا لانقسامات جديدة، وفى ليبيا لاحت الفرصة لتدمير الجيش الليبى عقب هبوب رياح «الربيع العربى»، وتجرى الآن محاولة لإشغال الجيش السورى، ثانى أقوى الجيوش العربية، وإبعاده عن الحدود تمهيدا لتدميره، وربما تقسيم وتجزئة سوريا على أسس طائفية.
أما فى مصر، أكبر الدول العربية، فتجرى محاولات مستميتة لإشغال جيشها وإطالة أمد المرحلة الانتقالية إلى أقصى حد ممكن. كل ذلك يجرى فى ظل تطور سياسى مهم ترى الولايات المتحدة أنه ربما يتيح لها فرصة ذهبية للتوصل إلى تسوية نهائية بالشروط الإسرائيلية، ونقصد بذلك وصول فصائل «الإسلام السياسى»، وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، إلى السلطة. ومن الواضح أن الرهان الإسرائيلى والأمريكى أصبح منعقدا الآن على جماعة الإخوان المسلمين، خاصة فى مصر، والتى تبدو مستعدة للقيام بأى شىء وتقديم أى تنازل فى مقابل تمكينها من الهيمنة على مقاليد الأمور فى مصر، لتصبح الوسيط المعتمد لتمرير التسوية بالشروط الإسرائيلية.. ربنا يستر.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"