حسن البطل
"لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد"
الربيع بن خيثم
الأصدقاء وطن، وقد أضيف أنهم للعائدين إليه وطن ـ في الوطن. إن قال جبران. "أولادكم ليسوا لكم"، فقد أقول ما قاله أبو حيّان التوحيدي عن صحبه في رسالته "في الصداقة والصديق": "إذا ماتَ لي صديق سقطَ مني عضو".
قرأت رسالة التوحيدي من كتب مكتبة صديقي الشاعر الراحل فيصل قرقطي. مكتبته للشعر والثقافة، ومكتبتي سياسية علمية ـ إسرائيلية.
مات صديق.. سقط مني عضو، ويقتبس التوحيدي من الخليل بن أحمد "الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال"، وأجاب الشاعر عن سؤال (جواب) الموت بقوله: "هزمتك يا موت الفنون جميعها" وعدّد الفنون وأسقط فنّ الشعر، لكنه لم يُسقِط شعر الرثاء الذاتي، وقد أبدع فيه، أيضاً، الشاعر مالك بن الريب، وأذكر وصيّته لرفاقه، بعد أن وافته المنيّة غريباً عن دياره بالرفق بجثمانه ".. وقد كنتُ صعباً قياديا".
الشعراء، بعامّة، صعب قيادهم، وقد عرفتُ هذا في درويش كما عرفته في فيصل، الذي عرفته وعركته رفيق سلاح ودرب وزميل عمل، كأنه يجمع أركان الحياة كما لخّصها الإغريق القدماء: ماء وتراب (صخر) ونار، وهواء.
من بيروت إلى تونس، ومن تونس إلى قبرص، ومن قبرص إلى فلسطين. وفي بيرزيت من فلسطين واريناه الثرى في "مقبرة الغريب" غير بعيدة عن بيته. تلة صخرية إلى جوارها خزان ماء، وجانب الخزان أطلال دارسة، طالما جلسنا على أسوارها مع تدخين سيكارة في فصول الربيع وأزاهيره البرية.
وقفة على قبر صديق مع صديق لي وله في العيد الأوّل بعد رحيله، فإذا قبره كما يوم دفنه. الحجارة كما هي: وباقات الزهور جفّت وبانت "عظامها".
"الغريب للغريب نسيب" لكن الصديق للصديق وطن. أولادنا التزامنا حتى يشبُّوا ويتغرَّبوا، لكن بعد الخمسين من العمر يصير أصدقاء السلاح والمسيرة وزملاء العمل إخوة في المزاج. لا أعرف من قال عن دمشق الشام: سقطت قطعة من سماء دمشق أو ما قاله التوحيدي نقلاً عن ابن دريد، نقلاً عن أبو حاتم السجستاني "إذا مات لي صديق سقط مني عضو".
على "الفيسبوك" نشرتُ صورتي وصورة صديق وصديق صديقنا الراحل، في الوقفة على القبر. ضجّ الأصدقاء والناس، أسىً وحيرةً وغضباً: أهذا قبر شاعر ـ عائد في "مقبرة الغريب"؟
كان الرفاق والإخوة والزملاء في بيروت نوعاً من "وطن في المنفى".. ماتوا كما يجب أن يموتوا على سلاحهم "لا تموتوا مثلما كنتم تموتون" قال الشاعر، وكانت مقبرة الشهداء في بيروت قطعة من الوطن، فقد وارينا فيها رفاقاً من كل الأديان والمذاهب ومن معظم البلدان العربية. غسان كنفاني إلى جانب أشلاء شهيد مجهول الهُويّة.
عدتُ وصديقي خالد درويش كسيفين من زيارة قبر الصديق الشاعر فيصل قرقطي. لا أدري لماذا تذكّرت قهوة الصباح وكأس آخر الليل سويّة، أو لماذا تذكّرت يوماً تناولنا فيه دجاجاً مشوياً طازجاً بعد الذبح إلى النار. قال فيصل: "ما زال في لحم الدجاج بقية من روح"!
ماذا تقول عن صديق ـ وطن عرفته قبل زواجه وشهدت ولادة أطفاله الثلاثة، وعشت حتى رأيتهم شباباً أصدقاء لابني وابنتي. غادرنا فيصل من قبرص إلى "معركة طرابلس" 1983، وعاد إلى قبرص مع زوجته وفاء ابنة مخيم نهر البارد.. وعندما وافته المنيّة لم نجد له قبراً سوى في "مقبرة الغريب".
قد أقترح على اتحاد الكتّاب أن يفتتح اكتتاباً لبناء قبر محترم لعضو الاتحاد، وشاعر الصورة والعبارة المحكمة فيصل قرقطي، وما يزيد على بناء قبرٍ يذهب إلى بناء سور للمقبرة وباب (حوالي 8 قبور)، وأيضاً، زراعة بعض الأشجار في المقبرة وبعض المقاعد.. فقد يخرجون من قبورهم ليلاً للسمر!
حياة فيصل وموته جزء من دراما الصراع على فلسطين، لأن أمه راحيل العربية اليهودية، تزوّجت أباه الموسيقي الموهوب، محمد غازي، وبعد النكبة صارت راحيل "فدوى" المسلمة التي هربت في صباها يوم زفافها إلى زواج من حبيبها الفلسطيني.
من النكبة حتى ما بعد أوسلو ظل أخوها عوفاديا يسأل عن أخبارها، فلما التقى ابن أخته وعرف أنها ماتت في سورية، وبّخه: "إحنا عرب.. وأبوك أخذ أختي خطيفة وبلا مهر.." ورفض فيصل كل عرض وقال: قاتلت وإخوتي الأربعة جنوداً في جيش التحرير الفلسطيني.
للمقاتل، للشاعر، للمثقف، للاجئ، للعائد.. للفلسطيني، قبر مهمل في "مقبرة الغريب" وأين؟
في وطنه؟