مذاق المرات الأولى

مذاق "المرات الأولى"

مذاق "المرات الأولى"

 تونس اليوم -

مذاق المرات الأولى

حسن البطل

لا أحد يستعيد رهبة ونشوة خطواته الأولى التي تنقله من رضيع زاحف في مرحلة الحبو، إلى طفل يتلعثم في النطق.. وفي نقل خطواته.
ربما يستعيد الأسير المزمن لحظة الحرية، أو المنفي مديد النفي، شيئاً من مشاعر الرهبة والنشوة..، أو المهاجر إلى بلد جديد.. أو، بالذات، العائد إلى ارض البلاد للمرة الأولى، بعد أربعين عاماً ويزيد من التيه والنفي. ذلك "النشيش" الذي يشبه - لا يشبه عناق صهير كتلة حديد، حمراء مستعرة، للماء يقولون: هذه العملية هي "سقي الحديد" وأما "سقي الروح" فيغير معادلة النفس تغييراً كيميائياً، إذا غيّر سقي الحديد فيزيائية المعدن. لأسباب أفهمها ولا أشرحها أغرق، هذه الأيام، في تفاصيل استعادية، مثل الدهشة المخبولة، نوعاً ما، عندما ذهبت إلى قلم اقتراع لانتخاب رئيس أعرفه، ونواب قرأت عنهم، سألت عنهم، شاورت شباب البلد في مزاياهم وخصالهم.. وكفاءاتهم.
لسبب ما، أذكر حسرة أبي العام 1958، عندما سألته، لماذا لا يحق لك انتخاب جمال عبد الناصر مرشحاً لرئاسة الجمهورية العربية المتحدة. زفر، وقال: "البلاد مش بلادنا" حارب في البلاد، مات في المنفى.. ولم يذهب إلى قلم اقتراع!
ذات مرة، في السابعة على ما أظن أبكيت أبي، فجأة نترت كف يده التي تحتضن كف يدي، وفجأة سألته: "ليش تركتم فلسطين؟ مش عيب عليكم"! استدار بوجهه إلى غير جهتي برهة، ثم التفت إليّ رأيت دمعتين وهاجتين في حدقتي عينيه. "يا ولدي.. لما تكبر بتعرف"!
في السابعة من عمره أبكاني ولدي، كما أبكيت أبي، لحظة وصوله بيتي، تسمّر أمام "خارطة أوسلو" في المطبخ ثم انفجر سؤاله الذي اختزنه من الهبوط في مطار عمان، قادماً من لندن، وحده برعاية المضيفة، عبور الجسر. توالي الأعلام الفلسطينية والإسرائيلية من أريحا إلى رام الله. قال: "بابا وين فلسطين"؟ وكان جوابي، بالضبط، هو جواب أبي: "لما تكبر تعرف".. والاولاد يكبرون بسرعة! من الاستعادات الحميمة رصد الفوارق بين جدران مخيمات لبنان و"منطقة الجامعة العربية" ببيروت الغربية، وجدران مخيمات فلسطين وشوارع مدنها.. تغيرات طفيفة - غير طفيفة في مفردات ولغة نعي الشهداء. الفوضى هي اياها.. وأما الفارق فهو علامات كودية باللون الأسود، وحروف رمزية، وشيء يشبه رسمة حساب الجذر.
لن تجدها، الان، الاّ في الشوارع القصية في المدينة، وعلى مداخل البيوت في القرى.
"التعداد العام للسكان" مع حرفي "ت.س" مرفقة بأرقام متسلسلة، لم تنتخب احداً من قبل (خارج الفصيل والاتحادات الشعبية)، لم يعدّك او يحصك احد، خارج رقم بطاقة "الاونروا" يا له من تحول من عدد إلى معدود، والتحول من الدال الى المدلول (وبالعكس).
لم تعد لاجئاً.. ولم تغد مواطناً! سيقال، الحياة تجربة في تجارب، او مجموع "المرات الاولى".. وكانت هناك مرة اولى غير بطاقة تعريف عضوية الفصيل، المؤتمر العام للحركة، عضوية اتحاد الكتاب والصحافيين.. وبطاقة هوية مؤقتة للاجئين الفلسطينيين! المكان القديم كله، من حافة النهر إلى حافة البحر مزدحم بالمرات الأولى.. ربما يشهق الحديد الساخن شهقة الوصال في عناق الماء، ربما تشهق الروح شهقة الحياة في عناق المكان.
تتذكر، مثلاً، القبلات الاولى في كل قصة حبّ، لكنك تتذكر اكثر تقبيل حفنة تراب في طيرة حيفا.. في ارض امك وابيك.
للقهوة طعمها الاول الذي تذوقته في الثالثة عشرة، عندما تذوقته في مقهى بينه وبين ميناء حيفا شارع فقط.
لنكهة وجبة السمك الاولى في قلعة عكا.. وتلك النظرة من ترشيحا الى معلوت شمالاً تلقي السلام على تلك النظرة الاولى من كفر شوبا جنوب لبنان، الى ما وراء افق "الخط الأخضر" جنوباً كم مرة طرقوا عبارة "كل الطرق تؤدي الى روما" حتى لم يعد لها من مذاق، .. عاد لاذعاً جداً: كل طرق فلسطين تؤدي الى غزة، أو تؤدي الى رام الله، التصريح الصارم بعبرية ركيكة الترجمة العربية، يقول: يسمح له بالذهاب "لاجتماعات السلطة الفلسطينية" ولكنك تصل ترشيحا شمالاً، وتصل بئر السبع جنوباً. كان الجنود متسامحين في كل الطرق، وصاروا خلاف ذلك في الطريق اليومية من سردا الى رام الله، في اول زمن العودة.
سألني صديق في غزة: "هل تشرب القهوة في القدس؟ ".. فوصلت باب العمود للمرة الاولى، المسجد للمرة الاولى، رام الله للمرة الاولى، باقة الغربية، حيفا، طيرة حيفا.. وترشيحا! عليك ان تجرب، ايضاً، المرات الاولى التي تتكرر ولا تتكرر منذ عامين، بدءاً من رائحة الغاز الأولى إلى رائحة الدولة الأولى.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مذاق المرات الأولى مذاق المرات الأولى



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia