حسن البطل
لهذه الـ "رام الله" صورتان: صورة سلبية (نيكاتيف) لمعارضي السلطة؛ وصورة ملوّنة هي صورة حياة الشعب.
مدينة التلال، عاصمة السلطة، لها خفقتا قلب يومية (لأنها مرضعة قراها الأربعين) وموسمية (حيث موسم الأعياد الدينية) وفي هذه الخفقة الأخيرة، يسافر قسم من سكان عاصمة السلطة (عاصمة الشعب) إلى قراهم في الأعياد.
هدنة إنسانية "مخروقة" في ما كانت عاصمة السلطة، أي مدينة غزة. هل تذكرون؟ كان ديوان الموظفين العام هناك؛ وهناك كانت تصدر الهُويّات، وهناك كانت تصدر جوازات السفر.
ثمة كتاب عن جدلية "الساحل والجبل" في هذه البلاد؛ وهذه البلاد هي "قارة صغيرة" كما عرّفها جغرافيون ألمان، نكبة جعلت أهل فلسطين الساحل يعيدون بناء حياتهم، وحياة وطنية، في فلسطين الجبل؛ وفي رام الله بالذات (بعد النكبة، بعد النكسة.. وبعد أوسلو).
يقولون: في القدس "سُرَّة الأرض"، ويقولون هي عاصمة الدولة في قسمها الشرقي، وهي عاصمة البلاد أيضاً.. لكن رام الله هي، أيضاً، "عاصمة المقادسة" حيث تدهشك أعداد السيارات ذات النمر الصفراء.
في الصباح لرام الله "وجه الشعب" وفي المساء لرام الله وجه سكانها، ومن غرائب رام الله أن ليس لسكانها نعت يوصفون به: خلايلة ـ الخليل، نابلسية ـ نابلس، ريحاوية ـ أريحا، بيراوية ـ البيرة.. والقلقيلي من قلقيلية، والكرمي من طول كرم.. لكن الرملاوي من الرملة، واللدّاوي من اللد.. والتلحمي من بيت لحم.. إلخ.. وأما الفلسطيني فهو من رام الله.
مع ذلك، فالباريسي نمط حياة فرنسي، والنيويوركي نمط حياة أميركي.. وحتى التل ـ أبيبي نمط حياة إسرائيلي، والمقدسي نمط حياة القدسي.. لكن لا يزال مبكراً أن يقال: رام الله هي نمط حياة الفلسطيني.
كان لي صديق قديم فلسطيني إبّان "صحافة المنظمة" في عاصمة الصحافة العربية ـ بيروت، ووضع كتاباً فلسطينياً عنوانه: "المؤتلف ـ المختلف"، لعلّ عنوان كتابه يشي بالعلاقة بين غزة ـ الساحل، ورام الله ـ الجبل، علاقة المؤتلف بالمختلف.
تذهب غزة إلى الحرب، فتذهب رام الله إلى التضامن مع غزة، تذهب رام الله إلى الانتفاضة.. فتذهب غزة للتضامن مع رام الله.
.. وتذهب غزة إلى "هدنة إنسانية" مخروقة، فتذهب رام الله إلى قراها مساء كل يوم، أو يذهب سكانها إلى قراهم في الأعياد، هذه خفقة قلب.
أوّل من أمس، قرأت التقرير الأسبوعي لحركة السفر عبر الجسر، الذي تصدره إدارة العلاقات العامة في الشرطة، وفيه أن عدد المغادرين إلى الأردن (ومن الأردن إلى بلاد الله الواسعة) هم 14665 وأما عدد القادمين فهو 16261، أي بزيادة ألفي قادم على عدد المغادرين.
هذه أيضاً خفقة قلب في العيد، لأن الفلسطينيين في الأردن والشتات العالمي يريدون قضاء عطلة العيد في مدنهم وقراهم الأصلية.
***
كثير من سكان الضفة ورام الله يزورون مدن الساحل: حيفا، عكا، يافا وطبريا أيضاً، لكن من لؤم العدو أن قليلا من سكان الضفة ورام الله يزورون غزة، وأعرف مواطنين ما زاروا غزة قط، أو زاروها قبل سنوات تعود لما قبل الانتفاضة الأولى.
غزة مدينة جميلة، ولعلّها في تخطيط شوارعها المتعامدة المدينة الفلسطينية الأولى، حيث تجتازها ثلاثة شوارع طويلة من أقصى القطاع إلى أقصاه على البحر.
لا يوجد ما يضاهي ساحة الجندي المجهول في غزة جمالاً واتساعاً وتشجيراً بين المدن الفلسطينية كلها.
***
يتحدثون عن حساسية بين غزة ـ الساحل ورام الله ـ الجبل، وفي الضفة يتحدثون عن المناكفة بين الخليل ونابلس.. وفي إسرائيل يتحدثون عن نمط حياة يهودي في القدس ونمط حياة علماني في تل ـ أبيب، وفي سورية أيضاً.. ولبنان كذلك، وحتى في فرنسا يسخر الباريسيون من سكان إقليم "البروفانس" الفلاحين.
لكن.. تبقى العلاقة الفلسطينية هي العلاقة الصحية في النضال والملمّات، وتبقى العلاقة بين غزة ورام الله علاقة المختلف ـ المؤتلف.
***
بعد خروج بيروت 1982 استقبلنا التوانسة بصدر رحب.. سألونا عن تجربة الحرب، ولعلّني أطلقت يومها "نكتة": شعب الله المختار هزم شعب الله المخ ـ طار. كانت هذه جولة صراع بين شعب ودولة؛ ودولة قوية وشعب عنيد.. ولعلّ أبو إياد هو من قال: نحن أكثر شعوب الأرض عناداً.