النارسة

النارسة!

النارسة!

 تونس اليوم -

النارسة

حسن البطل

لم أكرع جرعة ماء. لم أشخ. لم يكن في بيتنا «طاسة رعبة» فضية مزخرفة بآيات قرآنية. كنت في الخامسة ورأيت شيئاً مرعباً. لم أقل لأمي وأبي عما سمعت ورأيت. نمت حتى بحذائي.

رأيت في حلمي كابوساً لا أنساه، على كثرة ما رأيت في عمري من كوابيس نسيتها. أصبحت عطشان ولم أقو على الوقوف!

أمي تركت لجن العجين، وقالت: «اسم الله عليك».

كنت محموماً، وأخذني أبي إلى عيادة «الأونروا». عيادة من ثلاثة أركان: حكيم نسيت اسمه. بواب العيادة «أبو جاد» وهذه النارسة صبحية العرجاء.

كنا نقول «الحكيم» لا الطبيب ولا الدكتور. كنا نقول «النارسة» لا الممرضة. كان الحكيم طبيباً عاماً لكل مرض وعرض وعلّه. كانت شغلة النارسة صبحية العرجاء هي «ضرب الأبر» في عضلة العجيزة. ابر بنسلين ومشتقاته ستروبتوماسين مثلاً.

كل محموم كان علاجه إبرة، ربما من ستروماسين. كل فقير دم علاجه أبرة هي خلاصة طبية للكبد.
قال أبي للحكيم: ولدي محموم، ولم يقل أنه سمع ورأى شيئاً مرعباً قبل النوم، ورأى في النوم كابوساً مرعباً.
سأكبر وأعرف أن الحمّى جاءت من اجتفاف. عليك أن تشرب ماء وتبول وتحكي لوالديك ما الذي أرعبك، لا أن تنام تواً بحذائك.

سأكبر، وأعرف أن جرعات يومية زائدة من أحد مشتقات البنسلين لها أثر جانبي لاحق على عصب السمع. لم تعد قوة سمعي رهيفة بحيث أسمع «ضرطة النملة» كما كان أبي يقول ضاحكاً!
يموت عصب السمع بشلل تدريجي. الأمر يشبه شاشة تخطيط القلب قبل الموت .. أي خيطا أبيض بعد الدقة الأخيرة ثم يهمد القلب ويحضر الموت في نهاية خط أبيض يلي خطوطاً متعرجة لخفقات القلب.

سأكبر وأعرف المثل الشعبي «فالج لا تعالج» بعد جلطة في الدماغ، لكن الفالج ضرب عصب السمع لا عصب الساق والذراع.

رويداً رويداً، على مدى عشرين سنة، دون طنين في الأذن ودون وجع او صملاخ سيتمدد خط عصب السمع أفقياً كما يتمدد خط خفقات القلب!

هل هذا كان «إهمالاً طبيّاً»؟ كلا كان نتيجة خطأ الحكيم في التشخيص السريع، وخطأ الوالد في الشرح للحكيم سبب الحمّى، وخطأ الولد المحموم أنه لم يكرع كأس ماء ويشخشخ، ويروي لوالديه رعباً رآه.

ماذا رأيت؟ ماذا سمعت في ليلة شتائية لما كنت في الخامسة؟ كان البيت بعد خرابة. كانت الخرابة جنب حمام شعبي. كان جانب الحمام الشعبي معصرة. كان صديق الطفولة يحكي له عن الشياطين والعفاريت. كانت الشياطين تسكن في المعصرة وفي الخرابة .. وخاصة في هذا «الأمّيم» الذي هو بيت النار في الحمام الشعبي .. نار جهنم كما نتخيلها!

في ضوء فانوس كهربائي خافت على درب البيت أمام الخرابة، انعكس الضوء على عيني قطة تحرّك رأسها، وكان الانعكاس مع مواء عجيب وكان ضوء الانعكاس يشبه حزمة ضوء من لعبة «الليزر». تجمدّت رعباً، ثم سمعت عابري سبيل يحكون عن حادث دهس «الترين» لفتاة، وكيف تدحرج رأسها. سأكبر وأعرف أن رأسها تدحرج لأن الشارع ينحدر، وليس لأن الرأس كان ينطنط في كيس من الخيش كما قال عابرا السبيل.

ليس الحقّ على الحكيم الذي وصف إبرة البنسلين علاجاً للحمى. ليس الحقّ على أبي الذي لم أشرح له ما رأيت قبل النوم وفي الليل من رعب ومن كابوس.

ليس السبب أن «طاسة الرعبة» الفضية ذات الآيات القرآنية ليست في بيوت اللاجئين. لم أشرب ولم أشخّ!

كنت طفلاً لا أعرف ما هو الاجتفاف، ولماذا عليك ان تشرب الماء وتشخ ولا تنام فوراً إن كنت مرعوباً.

ليس الحق على النارسة صبحية التي حقنت عجيزتي أياماً طوالاً بجرعات مضاعفة من البنسلين. كل ما في الأمر مضاعفات من وعي الطفولة بالخرافات، ومن جهل الطفولة بعلاج حالة «الرعبة» ومن جهل النارسة بتأثير جرعات مشتقات البنسلين على عصب السمع.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النارسة النارسة



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 06:31 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

تنعم بأجواء ايجابية خلال الشهر

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 15:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 09:20 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

فوائد صحية وجمالية لعشبة النيم

GMT 18:17 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

إنجي علي تؤكّد أن مصر تتميز بموقع فني عالمي رفيع

GMT 13:10 2013 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الــ " IUCN"تدرج "الصلنج" على القائمة الحمراء

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia