حسن البطل
بسملت! مادت أرض الدار كما يميد جناحا طائرة حربية. تعرفون البسملة كاملة، لكن لماّ مادت الأرض بي وجدتني أقول: "بسم الله عليّ"!
من يوم تلك السقطة، من سقف سطح الى ارضية دار هي صبة إسمنت، لم أعاود عادتي كما الغلمان صحبي! "تنعر" و"تحكش" عش "الزلاقط" والدبابير بعصا، وفي اليد عصا ذات لهب على طرفها الآخر. تخرج هذه الزلاقط من العش ثم تهوي ميتة في "نار جهنم".
كانت غوطة دمشق مستعمرة للزلاقط والدبابير بنوعيها الأحمر والأسود. الأعناب أصناف وأشكال وألوان، أحلاها كان العنب الدوماني فائق الحلاوة، ورحيقه غذاء أثير للزلاقط والدبابير. حشرات طائرة، مرقطة عرضانياً بالأصفر الزاهي والأسود، او بالأحمر والأسود وللدبابير الأكبر، او سوداء هيفاء للدبابير الأشد لسعاً.
شيطنة أولاد ينعرون أعشاشها ويهربون، ونصيب العابر هجوم ولسعات في الرأس أو على الوجه. او على رؤوسنا ووجوهنا أحياناً.
أشد ألم اللسعة عندما تقع على الجفون، تنتفخ اسبوعاً او عشرة ايام، وبعد اللسعة نهرب باكين الى النساء اللواتي كنّ يفقسن حبات العنب، ويضعنها فوق اللسعة لامتصاص بعض سمّها، او لتبريد سخونة اللسعة.
في ذلك اليوم في مزرعة "حوش الغارة" شرقي دمشق وأقصى الغوطة الشرقية، شاركتنا أسراب الزلاقط في حبّات العنب الدوماني، فقلت: سأحرق العش، او قلت سأنعره دون حرق واطلق ساقي في الهروب.
هربت متراجعاً للخلف، ولم افطن الى ان بيوت القرية المتلاصقة متفاوته العلو، لكن سطح ذلك البيت، حيث سقطت وهويت، كان آخر البيوت.
عندما تسقط من سقف الى آخر، غير ان سقطت من سقف عال الى الأرض. بيوت القرية عالية السقف غالباً، وهناك عمود السقف من جذع شجرة.
شعرت أن السقطة اكبر من سقف الى سقف، فأمسكت بخشبة العمود، فاعتدلت السقطة بدلاً من وقوعي على الرأس وقعت عامودياً من علو خمسة أمتار.. فمادت الأرض، وبسملت على نفسي، وسقط شيء من أضراس أسناني أرضاً وانكسر عظم إحدى ساقيّ!
كدت أموت ولم أمت، وعامود السقف حيث احتضنه بذراعي لحظة عابرة جعلني اسقط عامودياً على قدمّي.
الضربة السخنة تؤلم عندما تبرد، وقبل ان تبرد وضعت النساء "يوداً" و"دواء أحمر" على جرح اسفل ذقني وقبل ان تبرد الضربة حاولت اللعب بالكرة مع الأولاد الذين انتشلوني تألمت وتوقفت!
عظامي كانت "طرية" كما عظام غلام في الـ 11 من عمره. صرت اعرج، وصارت أُمي أسابيع طويلة تدلك ساقي الموجوعة بزيت الزيتون بعد كمادات الماء الساخن، وشيء من الدهون المسكنة للآلام، لعلها كانت "امرتنجن" الهندية.
ربما أصدّق كلام الفلاحين بأن لسعة الدبور الأحمر في قوة سبع لسعات للزلاقط، فقد لسعني دبور احمر او دبوران، وانتفخ وجهي أياماً .. لكن لم أجرب كلام الفلاحين بأن لسعة الدبور الأسود في قوة سبعة دبابير حمراء، وبالتأكيد لم أجرب زعمهم أن لدغة العقرب، السوداء لا الشقراء، بقوة سبعة دبابير سود.
يسمون الزلاقط هنا "صُمّل" وهي قليلة في هذه البلاد، ربما لقلة الأعناب فائقة الحلاوة كالعنب الدوماني، او لأن اللحامين صاروا يضعون الذبيحة في البراد، او لأسباب لا اعرفها .. أولا تهمي معرفتها.
يقولون عن مخاطرة موت لا تفضي الى موت محقق: كُتب له عمر جديد، لكن بعد العمر الجديد صرت هياباً للمرتفعات، وأشعر بتنمل او خَدَر في ساقي اذا نظرت من علو شاهق. يسمون هذا "فوبيا المرتفعات" وغيره يسمونه "فوبيا الخلاء" كأن تكون وحدك في بيداء شاسعة.
غطت "السكسوكة" جرحاً مستديماً أسفل ذقني، وغطى الحذاء جرحا غائرا في كعب قدمي، عندما قفزت حافياً من ضفة جدول الى أُخرى .. كان بها زجاجة مكسورة.
الصدفة أنقذتني شاباً من سقطة اخرى، وكانت على جبل قاسيون، حيث تسابقت هرولة على سفحه نزولاً في ليلة مقمرة، ثم توقفت، رويداً رويداً. لكن على بعد خطوة واحدة من جرف عامودي في جبل قاسيون، صدفة ان يكون بينك وبين سقطة الموت خطوة واحدة لا غير .. يا للمصادقة العجيبة.
نظرت نهاراً الى الجبل، وقدّرت ان رمية الجرف لا تقل عن ٨٠ متراً. من الذي يبقى حياً اذا سقط من هذا العلو؟!
أين أنا من الجبان ذلك المغامر الشجاع الذي قفز بالمظلة من حافة أخيرة للغلاف الجوي للأرض الى الأرض .. وبسرعة زادت على سرعة الصوت قليلاً.