حسن البطل
يروون في المصادر العبرية هذه الواقعة: جال دافيد بن ـ غوريون، في سنة من سنوات ما بعد إعلانه الدولة، في الجليل.. ثم سأل مرافقيه: هل اجتزتُ حدود إسرائيل إلى بلد عربي؟
من قبل، أو من بعد، توسع إسرائيل الجغرافي، في حرب العام 1948، رأى بن ـ غوريون مستقبل الدولة في تهويد الجليل والنقب.
لذا دفع، أواخر خمسينيات القرن المنصرم، وأوائل ستينياته، إلى بناء مدينتي «كرمئيل» في منطقة الشاغور العربية الخصبة، ثم مدينة الناصرة العليا «نتسريت علييت»، وإبعاد الفلسطينيين، بالخديعة وبالحرب، عن حزام في الجليل الأعلى متاخم لحدود إسرائيل مع لبنان (إقرث وكفر برعم أبرز مثال).
عشية بدء إسرائيل احتفالاتها بالسنة العبرية، كيف تبدو صورة وخريطة التوزيع الديمغرافي في الجليل، بعد جهود تنمية وتطوير الاستيطان اليهودي فيه؟
في العدد 364 من ملحق «المشهد الإسرائيلي» الذي يصدره مركز «مدار» مع «الأيام» بانتظام كل أسبوعين، تقرير يستند إلى مصادر عبرية، وخلاصته: تراجع نسبة الأجيال الشابة اليهودية في الجليل والنقب بنسبة 11% وزيادة هذه الشريحة العمرية في تل أبيب ومنطقتها بنسبة 11% أيضاً.
هذه حركة انتقال وهجرة ديمغرافية داخلية، من الأطراف إلى المركز، وهذه الحركة ليست أمراً إسرائيلياً، لأن في أوروبا مناطق «تشيخ» لهجرة سكانها إلى مناطق الرخاء (أربعة ملايين بلغاري من أصل 11 مليوناً هجروها إلى دول غنية في الاتحاد الأوروبي وأميركا).
يقول الميزان الديمغرافي (السكاني) إن نسبة الفلسطينيين في عموم الجليل، الآن، هي 53% من إجمالي السكان، وفي النقب 40%، وهي تتفاوت في الجليل بين الجليل الأسفل (الناصرة) والأوسط والأعلى (كان الجليل جزءا من الدولة العربية في مشروع التقسيم).
المسألة أن هجرة الفلسطينيين الجليليين الداخلية هامشية، لسببين: عوامل الانتماء والارتباط العائلية، والآخر قوة الانتماء للمجتمع، وهما غير موجودين لدى الإسرائيليين اليهود، عدا أن أسعار السكن وكلفة الحياة في كتلة تل أبيب، أعلى مما يتحمّلها الفلسطينيون.
تأثير مصادرة الأراضي العربية، والتضييق على المخطط الهيكلي العمراني للمدن والقرى العربية لا يعكس، مع ذلك، الاختلال الديمغرافي الفاحش الفلسطيني ـ اليهودي (مثال: في الناصرة، الموصوفة بـ «عاصمة عرب إسرائيل» هناك 81 ألفا على أقل من 15 ألف دونم، مقابل 50 ألفا في «نتسريت علييت» على 42 ألف دونم.
نشأ عن هذا نوع من «الزحف» الديمغرافي الفلسطيني إلى الناصرة العليا وحتى كرمئيل (20% من سكان الناصرة العليا فلسطينيون، وحوالى 1000 في كرمئيل).
المفارقة أن الفلسطينيين في الناصرة العليا من الميسورين، بينما الغالبية الساحقة من اليهود فيها من أصحاب المداخيل المحدودة (مشروع لتوطين 5 آلاف يهودي حريدي في المدينة؟!
التراجع الديمغرافي اليهودي يشمل، أيضاً، حيفا التي كان الفلسطينيون فيها 20% من سكانها، وصاروا بعد الهجرة السوفياتية 10% لكن التراجع اليهودي المسجّل الآن هو 8%، وايضاً تراجع يهودي علماني في القدس بنسبة 8% للذهاب إلى كتلة تل أبيب، رغم مشاريع التهويد الحثيثة لجعلها عاصمة يهودية موحدة لإسرائيل.
لاحظوا هذه المفارقة: التكاثر الطبيعي اليهودي في تل أبيب هو 1.1% لكن ازداد عدد أصحاب حق الاقتراع فيها 2.4%، ونسبة تكاثر العرب في حيفا 9% واليهود صفر تقريباً بسبب الهجرة إلى منطقة تل أبيب.
هل فشل مشروع حياة بن ـ غوريون في تهويد الجليل والنقب؟ هذا سؤال مطروح بعد سبعة عقود من الدولة، لكن تهويد الضفة يتسارع؟!
للموازين معايير عديدة: الجغرافي (إسرائيل 88% وفلسطين 22%) والاقتصادي (لا مقارنة تقريباً) والعسكري (لا مقارنة مطلقاً) والديمغرافي (حيث يوشك الميزان على التعادل في أرض فلسطين التاريخية).. وداخل إسرائيل ذاتها (الفلسطينيون 20% من السكان).
يحكون في إسرائيل عن «دولة القدس» اليهودية، التي يهجرها العلمانيون الإسرائيليون، و»دولة تل أبيب» العلمانية الأشبه بالبحيرة الديمغرافية الداخلية التي تصب فيها جداول مدن الأطراف في الجليل والنقب، التي تمكن ساكنيها من حياة أوروبية غير يهودية (هي من عواصم زواج المثليين في العالم!).
معايير الموازين، على اختلافها، هي التي سترسم صورة إسرائيل، وشكل العلاقة بين شعبيها من جهة، وبينها وبين فلسطين الدولة من جهة أخرى.