مثل هلال ذهبي رمضاني شاحب، تبدو القبّة المذهّبة من سطيحة بيت بهاء. القرب شديد، لولا بيت أو اثنان يستران بهاء القبّة.. غير أن «مئذنة الغوانمة» تنتصب بطولها شبه الكامل، ربما تذكّرني بمئذنة «العروسة» في الجامع الأموي بدمشق.
مرّات، دخلت القدس العتيقة، جُلْتُ في أزقّتها الحجرية، وغالباً في طريقي إلى المسجد ذي القبّة المذهّبة. هذه كانت مرّتي الأولى، فنجان قهوة وكأس ماء (وسيكارة) في بيت عتيق بالقدس العتيقة.
ليس هذا أي بيت. إنه يتوسّط قدساً مدجّجة بالديانات (المقدّسة؟). «جامع الزاوية النقشبندية» يتوسّط بين الهلال الذهبي الشاحب (بسبب ضباب الجوّ في يوم مطير)، وكنيسة اسمها «كنيسة مدرسة الراهبات».
هنا ولد الكهل بهاء، بل في هذه الغرفة المعتّقة رأى النور. في بيت «الزاوية النقشبندية الأزبكية». تاريخ السلالة لا يعنيني إلاّ قليلاً. ثوب من صناعة بخاري معلّق في غرفة. وإلى جانبه صور لابسي الثوب المقلّم، المقصّب، الذي قد أقول إنه حال قليلاً ولكنه لا يزال قشيباً. واحد من «لابسي الثوب» جدّ بهاء، أحد جدوده بالأحرى، تحت الثرى. قبر حجريّ تحت قبّة في حديقة وحشيّة، قطفنا من شجيراتها بعض ثمار الليمون، بالطبع بعد خشوع بهاء و»الفاتحة». اذكروا محاسن موتاكم.
طرح بهاء عليّ معلومة وجدتها لغزاً. قال: إن تلك القنطرة، أمام البيت في شارع باب حطّة المفضي إلى باب الأسباط، عمرها ألفا عام (ربما يُبالغ).. لكن، كيف تستند القنطرة، نصف قوس القنطرة، على مبنى «مدرسة الراهبات» التي شيّدوها أواخر القرن التاسع عشر. ألفا عام تتكئ على القرن التاسع عشر. كل شيء يتوكّأ على كل شيء. الترميم هندسة بناء وعلم هنا.
شيء من الترميم طال بيت الزاوية النقشبندية البهائية البخارية، ليبقى صالحاً للسكن، وليكون بيتاً، متحفاً ناطقة جدرانه وأرضيته وأثاثه بتاريخ العائلة، السلالة البهائية النقشبندية. معتّق وعريق، باستثناء نباتاته دائمة الخضرة، وربما فناجين القهوة وكأس الماء (المنفضة أثرية).
أكثر من أي «تحفة» وأي ركن، أخذتني خزانات الكتب ذات الزجاج. طبعات قديمة من القرآن الكريم وكتب السيرة، وبالذات «مخطوطات» يمكنك، إذا أمعنت النظر، أن تقرأ سطورها بخط نسخي جميل.
تذكرون ما قاله الشاعر عن «ليلٍ كموجِ البحرِ أَرْخَى سُدُولَهُ» لكن هنا، على هامش المخطوطات، تذييلات بخطٍ مكينٍ رصين. إنها ملاحظات قارئ متمكّن بعد قارئ مُثابر، ولكنها بألوانها الحبرية المختلفة (أخضر، أسود، أحمر، أزرق) ترسم أشكالاً متوالدة من «الأهلة»، أو من موج البحر المتكسّر.
كنت أظنّ أن 40 عاماً من التدخين قتلت أو شلّت وأضعفت حاسّة الشمّ عندي، غير أن الغرف العتيقة لهذا البيت ذي الطوابق الثلاثة (للعائلة، للأعمام، للجد) كانت تفوح برائحة زمان معتّق.
هذا البيت النقشبندي البخاري البهائي جزء من تاريخ القدس العتيقة، بدلالة صور الرجال مع عماماتهم وطرابيشهم وعباءاتهم، تبيّنت بينها صور كثيرة مع المفتي الحاج أمين. بالطبع، اختلطَ عليَّ ما لا يختلط على بهاء وابن عمّه وابنة عمّه (المقيمين في البيت) من هو الجدّ والوالد.. وأمّا الحفيد فهذا هو بهاء، رسّام الكاريكاتير في «الأيّام».
أعرف كيف «عادَ» برقمٍ وطنيّ، وعُدنا معاً إلى القدس العتيقة والبيت العتيق بتصريح زيارة إسرائيلي.. لكن كيف «غادر»؟ يقول: إن والده المهندس ارتحل إلى الشام للشغل، فوقعت الواقعة الحزيرانية الشهيرة، التي سمّيناها «النكسة» وهي النكبة الثانية المقيمة فوق النكبة الأولى.
بالطبع، لبهاء «بطاقة هوية خضراء» يلزمها تصريح زيارة، ولابن عمّه «بطاقة هوية زرقاء» مقدسيّة لا يلزمها تصريح زيارة إلى رام اللّه. في زياراته السابقة لم يصّوروا بهاء كما يريد في «مسقط رأسه». أنا فعلت هذا له، وهو فعلَ هذا لي، ورافقنا في الزيارة «ولد» شاب في ميعة الشباب، يعمل في «وفا». سألته إن كان لاجئاً مثلي، فقال: إنه لاجئ يختلف، فقد طرحه «الخط الأخضر» إلى الجانب الآخر من البلاد.
في زاروب «باب حطّة» مخرج أو مدخل نفق. قال بهاء: كل الأنفاق التي ينبشها اليهود الآن، كانت معروفة، مُهملة ومردومة.. كلها أو معظمها.
.. ومن باب الأسباط خرجنا إلى حاجز قلنديا. عدت مع صليب خشبي صغير، صليبِ القدس.. وثلاث حبّات ليمون!