حسن البطل
صديقي أكبر مني، وخريج فصيل يساري، وحضر، أول من أمس، مؤتمر مركز "مسارات"... وخرج باستنتاج مفاجئ، بعد جلسة استماع إلى صائب عريقات، فقد أعجب بـ "عبقرية" كبير المفاوضين!
الحضور سألوا، وكبير المفاوضين أجاب. الأسئلة والإجابات عليها ذكّرت صديقي بطرفة شامية:
ـ هل أنت أخوت أم تتخوت ؟
ـ والله .. لا أتخوّت .
الخلاصة : عريقات ليس أخوت، لكنه تخوّت على الحضور.
لا معلومات جديدة. لا تحليل مفيدا. لا فكرة أصيلة واحدة..إنما "لف ودوران" دفع صديقي للقول: ربما كان العزاء انه يتكلم بنفس الأسلوب مع الطرف الآخر.
مركز "مسارات" كان "مركز بدائل" لكن الانشغال لم يتغير، لأن "البديل" من أوسلو والمفاوضات صار "استراتيجيات المقاومة" يعني استراتيجية للمقاومة السلمية، وأخرى للمقاومة المسلحة، وثالثة للصمود التفاوضي، ورابعة للصلحة الفصائلية .. والحاصل منها جميعاً يمكن أن يبدّل الحال إلى حال أخرى، رغم موازين القوى: العسكرية، الاقتصادية.. والانقسام الفلسطيني... إلخ.
بلاش قصة "أخوت أم تتخوّت" يمكن استبدالها بقصة أرقى، مثل: من بيض فاسد (أوسلوي مثلاً!) لا يمكن إعداد صحن عجّة.. أو بقصة أصعب: صحن العجّة لا يمكن أن يعود بيضاً (تهديد إسرائيلي هذه المرّة بإلغاء أوسلو).
في الأزمات التفاوضية يستخدمون تعابير أرقى. مثل: هبوط الطائرة على المدرّج قبل الامتار العشرة الأخيرة من نهايته، أو إقلاع الطائرة من المدرّج قبل الأمتار العشرة الأخيرة.
يقولون عن حوادث تحطم الطائرات: إن مخاطر التحليق قليلة إزاء مخاطر الإقلاع، وأن مخاطر الهبوط أكبر من مخاطر الإقلاع.
إقلاع طائرة المفاوضات كان سهلاً نسبياً، وأسهل منه التحليق، والهبوط كان بلا مخاطر كبيرة.. لكن المدرّج كاد أن ينتهي بعد آخر إقلاع، وهذا الشهر هو الأمتار العشرة الأخيرة من المدرّج. إما تتحطّم طائرة المفاوضات، وإمّا تقلع الطائرة قبل نفاد الأمتار الأخيرة من المدرّج.
يريد المستمعون في "مؤتمر مسارات" أن يقدّم كبير المفاوضين معلومة أكثر موثوقية، مثلاً، من تكهنات مصير الطائرة الماليزية: اختطفت؟ غيّرت مسارها؟ تحطّمت في البحر المحيط.. وإلى حين ينتشلون الصندوق الأسود من أعماق المحيط، سيعرفون هل كانت المشكلة في الطيار أم في الطائرة أم في ركاب مشبوهين؟
هل مشكلة تعثّر المفاوضات تتعلق بالطيار كيري، أم بالطائرة (المقترحات الأميركية) أم بالمدرّج القصير (تسعة أشهر تفاوضية)؟
يمكن تقسيم الشهور الثمانية التفاوضية إلى أربعة شهور كان هناك تفاوض بين جانبين، انتهى في تشرين الأول الماضي، وأربعة شهور أخرى كان فيها الجانبان يفاوضان الربّان الأميركي، الذي حطّ وطار في 12 رحلة هبوط وتحليق، ثم صار أشبه بقاضي محكمة، والمفاوضون أشبه بمحامي الدفاع الإسرائيلي، والادعاء العام الفلسطيني.
مبدئياً، لم ينطق القاضي بحكمه بعد، أو لم يتوصل إلى تسوية ودية بين العناد الفلسطيني والمراوغة الإسرائيلية، بما يذكّر بنبوءة اسحق شمير، بعد مؤتمر مدريد 1991: سنفاوض عشرين سنة.. بلا نتيجة!
هذه رابع محاولة تفاوضية برعاية أميركية، منذ مؤتمر قمة كامب ديفيد 2000، وقمة واي ريفر 1998، ومفاوضات ما بعد قمة أنابوليس 2007، وكل مفاوضات كانت أكثر تفصيلاً من سابقتها.
في نتيجة هذه الجولة الرابعة التفاوضية، كم تبدو الأمور بعيدة عن ادعاء شمعون بيريس في مفاوضات إعلان مبادئ أوسلو: كأننا نفاوض أنفسنا!.
المبدأ العام للتفاوض كان بسيطاً حتى السذاجة. الأرض في مقابل السلام، وصار الدولة الفلسطينية في مقابل السلام، وتدهور إلى "الدولة اليهودية" مقابل السلام، ومنه إلى تمديد أجل المفاوضات مقابل عدم الاحتكام إلى الشرعية الدولية.
منذ مبدأ التفاوض العام إلى أزمة نكوص إسرائيل عن تحرير الدفعة الرابعة، فوجئت إسرائيل باندلاع انتفاضتين شعبية ومسلحة.. والآن فوجئت بانتفاضة سياسية ـ دبلوماسية هي كسر الاستحكام التفاوضي باللجوء لخيار إلى الانضمام لجملة مواثيق واتفاقيات دولية، كانت إسرائيل أخبرت أميركا أن هذه الخطوة "كبيرة على رقبة الفلسطينيين".. ولن يجرؤوا عليها!.
"فاوض واستوطن" عملية إسرائيلية منذ أوسلو، انتهت إلى التهديد الإسرائيلي بإلغاء أوسلو، أي إلغاء السلطة، أي إعادة طبق العجّة إلى البيضات.
لكن "فاوض وهدّد باللجوء للشرعية الدولية" وهذا هو "البديل" الفلسطيني منذ قبول عضوية فلسطين دولة مراقبة في الأمم المتحدة. "كل الخيارات على الطاولة".
أميركا تقول الآن، كما قالت بعد كل جولة تفاوضية منذ واي ريفر: سنترك الجانبين ينضجان في مائهما.
جفّ ماء الطبخة التي "شوشطت"، وصائب عريقات أضاف معلومة جديدة ما هي؟ بدلاً من : علينا أن نقول وعليكم أن تتقوّلوا، صارت عليكم أن تقولوا وعلينا أن نتقوّل!.
هل قلت شيئاً مفيداً؟ لا.. هل الكاتب أخوت أم يتخوّت؟ .. والله لا أتخوّت!.