حسن البطل
"حدثني الزجاج والدخان / تركني دمي ومشى"..
لو ألقيت هذه العبارة على الورقة في أحد الصناديق الزجاجية المائة، لاستقرت في قعر الصندوق، المعلق على جدار حجري.
مائة غرض شخصي جدا في مائة صندوق زجاجي شافّ (نصف شفاف) تعلوها، على الجدار، مائة صورة شفافة (بالابيض والاسود) .. ولكن، دراجة الفتى الصغير الذي ذهب، مصادفة او عمداً، الى موته المبكر، تبقى، وحدها، خارج "الصندوق".
ثلاثون عاما، الا عاما واحداً، أضيع عن ذلك المغلف .. ولا يضيع مني. احمله في حقائب السفر، على ذلك المغلف الورقي البني كتب أخي الفدائي نبوءة موته:
"جلست أنظر اليّ / اتطاير في الفضاء / أنهار كالرمال / مددت اصبعي في سخونة الركام / حدثني الزجاج والدخان / .. وتركني دمي ومشى".
وددت لو اسقطت ذلك المغلف في الصندوق الواحد بعد المائة أو المائة بعد الألف. كل اغراض كوكبة المائة شهيد الاولى من شهداء الانتفاضة تستقر في الصندوق - التابوت؛ وفوقه صورة صاحبها كأنها شاهد القبر.
قميص نوم الحاجة خضرة. لوحة زيتية لوجه امرأة بريشة عبد الحميد الخرطي. زجاجة عطر احمد النبريص. قفاز ملاكمة جهاد العالول. شهادة مهنة حدادة محمد غانم. "مسطرين قصارة" "دريل" (مقدح) .. وقفص عصفور محمد غانم.
"المادة لا تُفنى؛ ولا تخلق من عدم". قانون علوم.
"يسألونك عن الروح. قل الروح من أمر ربي" (الآية 58 من سورة الاسراء).
"اسمك مجهول؛ ومأثرتك خالدة". عبارة تأبين للقتلى المجهولين من مناضلي حركات التحرر، وتوضع، احياناً، على "قبر الجندي المجهول" في بعض الدول.
.. غير ان محمد السميري اسم معرّف، صاحب مهنة حدادة، حارس في "كازينو أريحا" خرج لمشاهدة تظاهرة .. سقط وغرضه الاثير، استقر في الصندوق؛ وأما صورته - شاهد قبره الرمزي، فهي الفراغ المعلق في الفراغ. لم يترك صورة. ترك 11 شخصا كان يعيلهم .. بلا معيل.
"مائة شهيد؛ مائة حياة" عنوان اول معرض فلسطيني من نوعه، في المنافي وفي البلاد، يجعل للموت المرئي ثلاثة ابعاد، وليعطيها فريق اخرج الفكرة الى حيز الواقع .. البعد الرابع: خلود مأثرة الشهيد في ذاكرة أجيال الشعب.
للمرة الاولى يطور الفلسطينيون "ثقافة الموت" الى ثقافة الحياة، ويفعلون ذلك بما في البساطة المفرطة من ايحاء عميق؛ ومن جمال بصري ايضا.
تدخل حجرات المعرض كأنك تدخل محراب الموت. ضوء المصابيح خافت. ضوء الشموع ناعس. واغراض الشهداء الشخصية جداً (من علاقة مفاتيح الى وسادة نوم من قماش احمر مطرزة عليها كلمات الحب).
اللون الاحمر هارب تماما عن اغراض الشهداء، المقمطة بخيط كأنها مشروع هدية ما، او قربان ما، بما فيها دفتر العلوم (فيزياء، رياضيات، كيمياء) لطالب شهيد خرج سريعا من دورة الحياة، قبل ان يتخرج من كلية الجامعة، او مدرسته الثانوية.
تزور المعرض مرة، فتستقر الصور والاغراض في ذاكرتك الى الأبد، فإذا سألت "سيرة ذاتية" وجدتها في ما يشبه "كتاب الموتى". النص قصير: بالعربية والانكليزية. كل نص تتصدره صورة فوتوغرافية. كل نص وصورة على صفحة ورقة. كل صفحة ورقة يقابلها صورة "غرض" الشهيد الاثير .. وما بين الصورة والغرض حجاب شافّ من ورق "الكالك" للرسم الهندسي.
المعرض على الجدار او بين دفتي الكتاب، منزّه عن لون الدم ولون السواد. قد تتوقع غلافا لكتاب مزدحم العبارة، ركيكها .. او بليغها، مسربل بالاسود والاحمر.. فاذا بالكتاب يتحرر قليلا حتى من لون التراب، ويتخفف من الثرثرة الى "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة". والعبارة الأبلغ هي"مائة شهيد؛ مائة حياة".
بعد مائة ومائة في كتاب ثان وثالث ورابع .. سيكون للانتفاضة الحالية ارشيفها من الحيوات التي كانت تنبض .. وتركت اغراضها الحميمة في مكعبات من زجاج.
.. وفي الكتاب، ينحني الصغير للكبير؛ ويتقدم اكبر الموتى سنا "الالماني هارالد فيشر" صفحات الكتاب.
على شاشة التلفاز وجدران الشوارع يستهلكون بنهم شديد دراما الموت، وتغدو الانتفاضة مؤثرات بصرية وصوتية للمطربين. لكن، في احترام الموت والموتى بشكل فني وجميل، كما في المعرض والكتاب، تجد احتراما للحياة والاحياء.
ثلاثون عاما، أحمل ذلك المغلف الذي يحمل تلك العبارات: "حدثني الزجاج والدخان / .. وتركني دمي ومشى". اضيع احياناً عن المغلف .. ولا يضيع مني.
نقلا عن جريدة الايام