بقلم : حسن البطل
أنا القادم «من المناطق» في دور شاهد عيان: في مطاعم منطقة القلعة - عكا، لاحظت موائد عامرة وطاولات شاغرة ومحجوزة. الوقت كان عشيّة ساعة الإفطار في الأيام الأخيرة من رمضان. الإسرائيليون اليهود يأكلون ويشربون على موائدهم؛ والطاولات المحجوزة للفلسطينيين العرب الصائمين.
هكذا، فهمت المنطق العملي السليم، لأحد العكاويين الفلسطينيين، في تعقيبه على موجة شغب أهلية استمرت ثلاثة أيام؛ وفحواه: غضضنا الطرف عن انتهاكهم حرمة الصيام الإسلامي، فلماذا في «يوم كيبور» والصيام اليهودي، هاجوا لأن سائقاً فلسطينياً سار بسيارته منتهكاً حرمة يومهم؟
هناك، أيضاً، منطق معيّن في تفسير ضابط شرطة إسرائيلي، وردّه شرارة الشغب إلى أجواء مشحونة، قبل انتخابات بلدية إسرائيلية ستجري في 11 تشرين الثاني المقبل. هذا منطق ظرفي، يُضاف الى منطق خرق متبادل لحرمة أيام دينية مقدّسة لدى شعبي إسرائيل.
لكن، لماذا تحصل المناوشات القومية حتى في المباريات الرياضية بكرة القدم، ويعلو في مدرجاتها الهتاف المقيت ذاته الذي تردّد في مدينة عكا المختلطة: «الموت للعرب»، فيرد هؤلاء: «الموت لليهود».
لا أعرف ما هو ثقل الصوت البلدي العكاوي في تشكيل مجلس بلدية عكا، لكن في حيفا، مثلاً، بقي ثقلاً مرجحاً في الانتخابات لرئاسة البلدية منذ إقامة إسرائيل.. وقد يصبح مرجحاً حتى في القدس، بشكل خاص، إذا غادر المقدسيون سياسة مفهومة في مقاطعة الانتخابات البلدية.
لا يمكن بالطبع، عزو خضّة أخرى في علاقات دولة إسرائيل ويهودها بمواطنيها العرب الفلسطينيين إلى انتخابات بلدية أو برلمانية وحدها، وبخاصة بعد «نقطة تحول» أخرى حصلت، في مثل هذا الشهر، قبل ثماني سنوات، وسقط فيها 13 فلسطينياً برصاص شرطة إسرائيل، وعُرفت بهبّة أكتوبر والدفاع عن الأقصى، بعد أيام قليلة من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
الفلسطينيون في إسرائيل الذين يحيون، كل عام، يوم المذبحة في دير ياسين 1948، ويوم الأرض 1976، صاروا يحتفلون بيوم طويل في أكتوبر استمر عشرة أيام. الأيام العشرة الأولى من أكتوبر صارت حافلة: حرب يوم الغفران 1973. صدامات أكتوبر 2000، والآن شغب أهلي في عكا لم يسفر، لحسن الحظ، عن ضحايا هذه المرّة، ربما لأن الشرطة كانت شرطة أكثر مما كانت في صدامات أكتوبر طرفاً قامعاً وقاتلاً.
بلغ من أصداء وأهمية صدام أكتوبر 2000 أن فرض الأمر على حكومة باراك تشكيل أول لجنة تحقيق رسمية، وكانت برئاسة قاضي المحكمة العليا ثيودور أور. لجان مثل هذه كانت حكراً على قصورات في حروب إسرائيل.
(لجنة أور) تعمقت نوعاً ما في أسباب أزمة العلاقات القومية لشعبي إسرائيل، وسياسة الحكومات الإسرائيلية في تكريس علاقات غير متكافئة بين الأكثرية اليهودية والأقلية القومية الفلسطينية. صدر التقرير العام 2002، ومرّت ستة أعوام على التقرير دون تغيير جوهري في سياسة التمييز القومي الصهيونية، بل وتعمدت حكومة شارون، الذي عارض منذ البداية تشكيل لجنة تحقيق رسمية، تمييع توصيات أور عن طريق وضع «توصيات لجنة لبيد» لتطبيقها على الرف.
فهمت القيادات الفلسطينية، والأكاديمية الفلسطينية في إسرائيل العام 2002 أن الوقت قد حان ليشاركوا في تقرير ورسم صورة جديدة لإسرائيل، عبر رسم وتحديد صورة جديدة لدورهم كأقلية قومية.
هكذا، صدرت ربيع هذا العام ثلاث وثائق فلسطينية - إسرائيلية، هي: الدستور الديمقراطي. وثيقة التصور المستقبلي.. ووثيقة حيفا، والأخيرة جامعة للأوليين، وتعتبر بمثابة (دستور) خاص للأقلية القومية الفلسطينية في إسرائيل.
سائر الوثائق الثلاث تؤكد، في مقدماتها، أن العرب الفلسطينيين في إسرائيل هم «أهل الوطن الأصليون». إنهم «مواطنون في الدولة» كما هم «جزء من الشعب الفلسطيني والفضاء العربي والإسلامي.. والإنساني».
دولة إسرائيل ليست «دولة جميع رعاياها» كأميركا وفرنسا؛ وليست دولة متعددة القوميات كروسيا، بل دولة ثنائية القومية.
هناك مشكلة في المدن المختلطة، ومشكلة في الأرض المشتركة، ومشكلة ناجمة عنهما في السلام المشترك والتعايش المشترك.
هذا هو الجمر الذي لم يعد غافياً تحت الرماد، مع رياح البحث عن هوية دولة إسرائيل وهوية دولة فلسطين.. وضع الفلسطينيين هناك ووضع المستوطنين هنا.