مصباح

مصباح

مصباح

 تونس اليوم -

مصباح

بقلم - حسن البطل

إذا قال أبي «امشي من وجهي» مشيت مشية كلب انتهره سيده، او جرو كلب لبطته امه.. فأبعد فمه عن حلمة ثديها. وأحياناً، كان مصباح يزجرني «غور من وجهي»، او «روح تخيّب».
تأنيب أقسى من هذا لم يكن من نصيبي؛ واخف من هذا كان نصيب أخي الصغير، سعيد، آخر العنقود. يؤنبه والدنا «غوّارة» او «نوارة».. كبر وصار آخر المقاتلين وأول القتلى في عيلة مصباح.
تأديب أقسى من صفعتين او «ضربني كفاً» لم يكن عقابي. بعد كل صفعة لا يمر ليل على نهار، دون ان يأخذ مصباح ولده حسن، ابن الثامنة او التاسعة، بحضنه الطري - القوي.. ثم يأمرني، كما يرجو المستمع المغني: يلا.. انشد «أنا علي المعوّل». ما معنى «المعوّل» يا أبي. يقول مصباح: يعني المستقبل يا ولدي.
نسيت كلمات هذا النشيد المدرسي، ولم انس مطلعه. معلمة الصف في مدرسة الوكالة لقنتنا النشيد في سن السادسة، ولم تشرح لنا معاني مفرداته. لاحقاً، سيقتلنا معلم النحو في إعراب قولة طرفة بن العبد:
«إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني/ عنيت فلم أكسل ولم أتبلد».
أحببت أبي ونشيد «أنا علي المعوّل». أحببت الإنشاء المدرسي، ولم احب النحو والصرف. أحببت الحساب والهندسة، ولم احب الجبر واللوغارتم. أحببت وجه أبي ضاحكاً (كانت أسنانه لؤلؤاً منظوماً، خلاف أسنان أمي).. صوته الفضي، حطته الناصعة أبداً.. وفهمت متأخراً جداً، لماذا احب أبي ألمانيا. كانت «مارتينته» ألمانية، كما قالت لي أمي بعد أربعين عاماً من وفاة أبي. وقبل أربعين عاماً من سقوط جدار برلين، اذكر كيف «نتر» أبي كف يدي بكف يده. قال: سيعود الألمان دولة واحدة.. تعيش وتشوف.
مصباح حسين البطل عاش حتى رأى جمال عبد الناصر في الشام، ثم انفجر شريان في دماغه في ذروة ضحكة مجلجلة أثناء سهرة عند لاجئين صفديين في قرية دوما.. وأنا عشت حتى رأيت تلك المدرسة في طيرة حيفا، التي رفعها أبي، بزنده، ساعده، مرفقه، عضده.. وذراعيه. كان مصباح فلاحاً، وكان محارباً، وكان عماراً.. وكنت، في صغري، أتملى عضلات زنده، وساعده، وذراعه عندما يتوضأ.
وفي طيرة حيفا، رأيت حجارة مدرستها الثقيلة، وفهمت لماذا كان مصباح يحمل بطيختين في كل ذراع ذي زاوية قائمة. عندما اشتد ساعدي بعد وفاة أبي.. لم أتمكن، قط، من حمل اكثر من بطيخة واحدة في كل ذراع.
كان يأخذني الى سوق القرية ممسكاً بيدي، فأعود حاملاً ما يلزم البيت من المؤونة وحوائج.. وما يلزم عائلة رفيقه في السلاح، الذي سقط أثناء الانسحاب من طيرة حيفا، وترك وراءه ثلاث بنات في عمري وأقل.
علمني أبي كيف أفك الحرف قبل ان ادخل الصف، فكتبت على سبورة الصف الأول كلمة «العصفور» سليمة، بينما كنا نتهجى كلمات: بابا. ماما. قلت له مباهياً: صفق الصف لي. قال لي: قم وانشد «أنا علي المعول».
في الأربعين من عمري، زارتني أمي مريم، رحمها الله، في نيقوسيا، فاستذكرت معي كيف بللت دموعي حصباء وحجارة الوادي، عندما كنا ننقلها لتشكل مهداً لقبر أبي الطري.. حتى لا يغور القبر وحجارته مع الزمن. استذكرت أمي كيف «طحاها» أبي صارخاً «امشي من وجهي يا مرة»، لأنها نقلت مارتينته من مخبئها في السلسلة الى مكان اكثر ستراً.. دون ان يدري.
في الأربعين لم يشتد ساعدي مثل ساعد أبي.. ولكن أمي قالت: أولاد مصباح يغضبون مثل غضبة أبيهم، ولكنهم لا يضحكون مثل ضحكته. وقالت أمي: إذا كتم أبوك غضبه في صدره، انتصبت شعرتان في حاجبيه.. كأنهما «زبانة» العقرب.. وليس في حاجبيك شعرة الغضب كما أبيك. سيكون عمرك أطول.. ان شاء الله.
حقاً، رأيت أبي غاضباً مرة أثناء توزيع مؤن الوكالة. ومرة لأن مدير المدرسة شتم «أولاد اللاجئين الزعران».. فذهب أبي الى المدرسة وامسك بياقة «عادل بيك» وصرخ في وجهه.
.. ولكنني لم أر، قط، زبانتي عقربين في حاجبيه. كان مصباح يغضب في السياسة وعلى الساسة.. وعلى ذل اللجوء خصوصاً.. فكيف يغضب على «عمايل» صغيرة اكثر من «امشي من وجهي».. ومن مد يده الى حزام وسطه.. فنمشي من وجهه ركضاً.. لنعود الى حضنه ركضاً.
وقالت أمي: لك في صوتك بحة الحزن في صوت أبيك، ولك في حبّ الزهور والورود شيء من عادات أبيك. هذا نصيبك من سر أبيك، ولأخوتك الثلاثة نصيبهم.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصباح مصباح



GMT 12:13 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

ماذا سيفعل العراقيون بعد اقتحام السفارة؟

GMT 12:10 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

أردوغان يعاني في بلاده

GMT 11:56 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

دبلوماسيّون: حراك مكثف على ساحة متأرجحة!

GMT 11:38 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

الباجي وخطيئتا بورقيبة وبن علي

GMT 11:29 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

الإمارات ملتقى الأمم

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 18:08 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:11 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان الخميس29 -10-2020

GMT 14:42 2019 السبت ,16 آذار/ مارس

أفكار جديدة وملفتة لديكورات ربيع 2019

GMT 15:25 2019 الأربعاء ,26 حزيران / يونيو

انتحار طالب داخل لجنة للثانوية العامة في الغربية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia