على هذه الصفحة، كتب أحد الزملاء في مقالة له، إنه سأل ياسر عرفات عن أسباب الذهاب على أوسلو. لما طرح السؤال، كان القائد العام يتكئ بكوعيه على الطاولة، ولمّا أجاب، اعتدل في جلسته، وأسند ظهره إلى الكرسي، وقال: لأننا فقدنا الظهر والظهير بعد خسارة العراق حرب الخليج الأولى، ثم بداية الانهيار السوفياتي.
هل أضيف سبباً آخر؟ بعد مؤتمر مدريد الدولي، عقدت مباحثات الردهة في وزارة الخارجية الأميركية، بين وفد فلسطيني وآخر إسرائيلي، وكانت مثل «دق الماء وهو ماء» أو كما قال اسحاق شامير: سنفاوض عشرين عاماً بلا نتيجة اتفاق، أي «طق حنك» مع الفلسطينيين.
بعد هذه الأوسلو، صدر عن مطبعة أكسفورد كتاب ضخم ليزيد صايغ «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949ـ1993»، وخلاصة الكتاب سلبية.
في حينه، تناول زئيف شيف، المعلق العسكري الراحل لصحيفة «هآرتس»، وكان أبرز المعلقين الإسرائيليين، الخلاصة السلبية، بقوله: إن خروج عرفات من بيروت 1982، وعودته إلى البلاد بعد أوسلو، بمثابة «نقلة» استراتيجية تذكر بهزيمة الأميركيين في بداية الحرب العالمية الثانية مع اليابان، ثم انتصار المهزوم الجنرال ماك آرثر، واستسلام اليابان وإمبراطورها الأسطوري.
يعنينا من الأمر وصفه عملية أوسلو بـ «نقلة استراتيجية» تستند إلى قدمين: النتيجة السياسية لأول حرب شاملة فلسطينية ـ إسرائيلية عام 1982؛ والانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987.
تذكّر هذه «النقلة» الاستراتيجية، بعد الانهيارين العراقي والسوفياتي، بـ»نقلة» برامجية بعد قصور الحرب العربية ـ الإسرائيلية 1973 عن تحقيق هدفها في تحرير الأراضي العربية المحتلة، وبرنامج «النقاط العشر» لعام 1974 المعروف ببرنامج «السلطة الوطنية الفلسطينية».
هل تحقق، في أوسلو، برنامج السلطة الوطنية، بعد20 عاماً من «نقلة» برامجية فلسطينية من التحرير القومي إلى الكيانية الفلسطينية؟ ليس بعد!
بع
د خروج بيروت 1982، انتقل مركز التخطيط ـ م.ت.ف إلى تونس، ووضع خبراؤه مشروع برنامج استراتيجي فلسطيني لسياسة المنظمة في مرحلة جديدة.
لا أعرف هل قدّموه إلى عرفات قبل أو بعد الانشقاق ومجازفة عرفات في العودة إلى لبنان، ونتائج الصدام في طرابلس ـ لبنان مع الجيش السوري والمنشقين الفلسطينيين.
يُقال: إن القائد العام تصفّح هذا البرنامج «الاستراتيجي» ثم أعاده إلى مصدره مع تعقيب: «انقعوه واشربوا ماءه»!
منذ فشل مفاوضات «الوضع النهائي» عام 1999 حسب اتفاقية أوسلو، وخصوصاً منذ النتائج الكارثية للانتفاضة الثانية وغياب القائد ـ المؤسّس، كثر الحديث عن الحاجة إلى «استراتيجية» فلسطينية للخروج من فشل أوسلو في تحويل السلطة الوطنية إلى دولة وطنية، وبخاصة بعد الانسحاب الأحادي، العسكري والاستيطاني، الإسرائيلي من قطاع غزة، ونتائجه، غير المباشرة، في الانقلاب الحمساوي، ومراوحة مفاوضات استعادة الوحدة الإدارية والسياسية لمنطقتي السلطة دون نجاح ملموس.
كان عرفات، في المرحلة اللبنانية، يشكو من وضع عربي رديء، لكن بعد هذا «الربيع العربي»، صرنا نشكو من وضع فلسطيني وإسرائيلي ودولي رديء.
لكن، مع رداءة وضع استراتيجي، فقد صارت فلسطين حقيقة سياسية دولية مع مشروع «الحل بدولتين» وليس حقيقة سيادية، لأن المنطقة (أ) السيادية الفلسطينية فقدت حصانتها الأمنية نتيجة الاجتياح الإسرائيلي عام 2002.
مع كل تصوّراتها، أدت عملية أوسلو إلى شيء «استراتيجي» هو نقل العمل الفلسطيني من الأطراف والشتات إلى المركز في أرض البلاد.
نظرياً، تدّعي إسرائيل أن قضية فلسطين فقدت مركزيتها العربية، بعد التداعيات الإقليمية والدولية لفوضى «الربيع العربي»، وبدلاً من «الحل بدولتين» صارت تتحدث عن تحالف إسرائيلي مع دول الاعتدال العربي ـ السنّي، ضد الدول الداعمة للارهاب الشيعي.
انتقل مركز العمل الفلسطيني من الشتات إلى البلاد، ثم انتقل مركز العمل العربي، لاحقاً، من العراق وسورية ومصر إلى الخليج على غير صعيد: سياسي ومالي وثقافي واقتصادي، ولم تعد الجيوش والدول العربية، تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، بل مجرّد مشكلة أمنية.
في محصّلة كل هذا، صارت المسألة الفلسطينية هي المركزية لإسرائيل، وصار المصير الفلسطيني يؤثّر على تطرف المسار السياسي والأيديولوجي الإسرائيلي، وهذا بدوره يؤثّر على تقرير المصير الفلسطيني والكيانية السيادية الفلسطينية.
بدلالة ماذا؟ تقرير أخير لمركز بيغن ـ السادات، عن عجز إسرائيل التعامل مع مأزقها الفلسطيني، وتمترس إسرائيل حول «يهودية الدولة» والفلسطينيين حول «حق العودة»، وأن انهيار السلطة غير مفيد لإسرائيل.
في مقال أخير (كوبي نيف ـ «هآرتس» 7 الجاري) ان إسرائيل هي الأكثر تسلُّحاً في العالم نسبة إلى عدد سكانها مع 3.870 دبابة و680 طائرة و140 قنبلة نووية و14 غواصة، وهي تخوض صراعاً مع الشعب الفلسطيني الذي يتسلَّح بالسكاكين والبنادق.
هل فلسطين تشكل خطراً أيديولوجياً وسياسياً على إسرائيل، في غياب خطر وجودي عليها من أي قوة أو جهة كانت؟
يتحدثون عن استراتيجية فلسطينية هي الوحدة الوطنية، وإعادة تفعيل م.ت.ف، وحوار وطني شامل، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وبرنامج وطني جديد.. إلخ.
كل هذا «صف كلام» و»طق حنك» لأن البلاد صارت مركز العمل الفلسطيني، والقضية المركزية لإسرائيل، ولا كبير تأثير في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي لموازين القوى العسكرية والأمنية، بل موازين القوى السياسية والأيديولوجية.
صورة إسرائيل العالمية بعد توقيع أوسلو غير صورتها الحالية بعد فشل أوسلو، حيث هي دولة الأمن الأولى في العالم، ولكنها دولة مرشحة للفصل العنصري ويتهدّدها خطر النبذ والعزلة لسياستها الفلسطينية.