على جدار هنا وآخر هناك، عاد شباب الى كتابة الكلمة الفلسطينية-العالمية الأثيرة «انتفاضة» برذاذ بخاخات الدهان.
فعلاً، مفردات الانتفاضة عادت، وأبرزها الحجر والمقلاع واللثام.. وأعلام البلاد وأيضاً رايات الفصائل. هل هي «وميض جمر يوشك أن يكون له ضرام». أم شرر لن يصير حريقاً. لا أدري ولا أجزم.
.. لكن، أعرف خلاصة التكرار: بطولة. مأساة.. ثم مهزلة، أو لا تذهب الى حرب بوسائل حرب سابقة. المفردات هي هي، سلاح الضعيف إزاء القوي، لكن المعطيات لم تعد كما كانت: ميدانياً وسياسياً.. وربما شعبياً.
نعم، «أكثر النار من مستصغر الشرر» وشرارة احتجاج شعبي-سلمي في بلعين، قبل سنوات، صارت شرراً في حزام يحيط بالجدار، أو محيط المستوطنات، او معتقلات الاحتلال أخيراً، كما في تظاهرات الاحتجاج أمام سجن «عوفر» تضامناً مع الأسرى المضربين عن الطعام.
الانتفاضة الأولى العظيمة اندلعت من «حادث طرق» مقصود أو غير مقصود؛ والثانية من استفزاز مقصود في الحرم القدسي.. وتلاهما حريق شامل دام سنوات.
لا مكان، أو لا أهمية للسؤال: عفوية أم مدبرة.. أم أن القيادة في تونس تحكمت في اللهب؛ والقيادة في رام الله خرجت الأمور عن سيطرتها.. وفي الحالتين نعرف كيف تندلع «الحرب» وقلما نعرف كيف يخمد أوارها، بعد فوضى «وفلتان أمني» وتقهقر الاقتصاد وتقاليد المجتمع أيضاً في ميلها الى «جزر» المحافظة بعد «المد» الراديكالي.
بدأت الانتفاضة الأولى «راديكالية» حيث تمرد الشباب على الاحتلال والبطريركية «الأبوية» معاً، وانتهت الى «محافظة» اجتماعياً، أو الى قيود على لباس النساء. من يتأمل «ساحة التحرير» المصرية في عنفوان أيامها الأول، ونقاشات سخيفة في البرلمان المصري المنتخب، يعرف ما أقصد. الأصولية أدهى أم الاستبداد؟ من يتتبع أمور الانتفاضة الثانية النارية، بعد أسابيع من طابعها الشعبي، يعرف أن الاحتلال جرنا الى خوضها بشروطه. يمكن فهم «العمليات الانتحارية» لولا الاسراف في ممارستها، واستهداف المدنيين عشوائياً، بينما جنود الاحتلال على الحواجز في الأرض المحتلة.
ولولا عمليات فدائية شجاعة (وهي خمس أو ست عمليات باهرة) لكانت الصفة الغالبة على الانتفاضة الثانية هي عمليات انتحارية، جردت الانتفاضة هذه من تعاطف عالمي نالته بجدارة الانتفاضة الأولى.. وبخاصة في مطالعها الشعبية وغير النارية، وأعطت العمليات الانتحارية (إرهاب ضد إرهاب) عذراً عالمياً لاسلوب التصفيات و»القتل المستهدف» لنشطاء الانتفاضة.
اقتراب السلطة من حركة «فتح» وهذه من «كتائب الأقصى» أعطى جيش الاحتلال ذريعة لتدمير ممنهج ومتماد للسلطة ذاتها، ومقراتها اللوجستية، أي مفاصلها.. وانتهت بالضرب بالرأس، واغتيال القائد التاريخي، وعانى الشعب من حصار محكم، بحيث كانت المواصلات بين شمال الضفة ووسطها تمر عبر «زاروب» مخيم الجلزون الضيق جداً.
الآن، يبدو شرر الاحتجاج كأنه وضع قدر الطبخ على نار هادئة، والمبادرات بأيدي الشباب المحتجين الذين «فرضوا» اسلوب المواجهة والاشتباك، دون أن يتمكن جيش الاحتلال من الإمساك بزمام المبادرة، كما في الانتفاضة الثانية خصوصاً، ويمارس الشعب حياته العادية، ويرمم خراب الانتفاضة الثانية وفوضى «الفلتان الأمني». هذا لعله أفضل من طبخ الانتفاضة الثالثة بطنجرة الضغط «البريستو» وتعطيل الحياة العامة.
انتفاضة هادئة ومفاوضات مديدة. لماذا لا؟ ولو تذمر الناس من المفاوضات، فإن السلطة في حالة «هجوم» سياسي، وإسرائيل في حالة «دفاع» سياسية.. الى أن تنضج الظروف العالمية والعربية والإقليمية.
مراكمة المكاسب أجدى من الرهان على انتفاضة ثالثة، وما يبدو «عزلة» سياسة القيادة عن شعبها يظل أهون من «عزلة» إسرائيل في العالم.
اعترفت 105 دول بمنظمة التحرير كحركة تحرير، والآن 133 دولة تعترف بفلسطين-دولة. الفارق مهم لأنه مصيري.
كانت الحركة الفدائية نسيج وحدها، والمنظمة نسيج وحدها، والانتفاضة نسيج وحدها. والدولة نسيج وحدها أيضاً. (إسرائيل فريدة.. وفلسطين فريدة).