أعطتني العملية النارية للشهيد مصباح أبو صبيح، في الشيخ جراح ـ القدس، إحصائية إسرائيلية، وبموجبها أن ميزانية الضحايا منذ عام على انتفاضة ثالثة للأفراد تختلف عن الانتفاضتين الشعبية والمسلحة، هي 240 فلسطينيا مقابل 43 إسرائيليا. هذا يعني أن نسبة الضحايا هي واحد إلى ستة.
حسب "ويكيبيديا" كانت نسبة خسائر الأرواح، في الانتفاضة الأولى، هي 1300 فلسطيني و160 إسرائيليا (إضافة إلى 1000 فلسطيني راحوا جرّاء تصفيات نصفها غير عادلة)، وفي الانتفاضة الثانية كانت النسبة 4412 فلسطينيا مقابل 334 إسرائيليا.
حسب إحصائيات دولية عن خسائر الأرواح في الحروب، يسقط قتيل عسكري مقابل كل ستة جرحى. سنلاحظ أن هذه النسبة متناسبة ولكن في عدد القتلى، في أحداث بدأت في تشرين الأول من العام الماضي.
كان سلاح الانتفاضة الأولى حجرياً أساساً؛ والثانية بدأت حجرية ثم مسلحة؛ والثالثة يغلب عليها السلاح الأبيض والمبادرة الفردية.. وفي جمعيها واجهها الاحتلال بالسلاح الناري.
استعار ماوتسي تونغ مثلاً صينياً يقول: ربّ شرارة أشعلت السهل كله.. في العربية يقال "أعظم النار من مستصغر الشرر"، وهكذا كانت "شرارة" الانتفاضات الثلاث، التي فوجئت بها إسرائيل بدرجات متفاوتة.
في الانتفاضة الأولى هُزمت إسرائيل سياسياً، وفي الثانية هُزمت السلطة الفلسطينية عسكرياً، وفي الثالثة واكبتها "حرب سياسية" تخوضها السلطة دولياً لتتحول دولة سيادية، بدلاً من مدح الانتفاضة وذم السلطة، لماذا ليس التكامل؟
صراع المائة عام الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو إجمال المواجهات والمعارك والحروب، أو بتعبير آخر: صراع بين ميزان القوى في الجانب الإسرائيلي، وميزان الإرادات في الجانب الفلسطيني، الذي يواجه ميزان القوى بمزيج من الخصائص الفلسطينية الفريدة، مثل: قدرة التحمل، والصبر، والعناد.. وأيضاً بروح التضحية والفداء. الابتكار والإقدام.
جنرالات الحروب يقولون هذه الخلاصة: لا تذهب إلى حرب بدروس حرب سبقتها. إذا اختلفت الانتفاضات الثلاث، وفاجأت إسرائيل في ذلك، هل نردّ الاختلافات إلى ما قد نسميه العبقرية الشعبية الفلسطينية؟
كانت "الحرب الفدائية" نوعاً من عبقرية عسكرية فلسطينية؛ وكانت معركة الكرامة نقطة تحول فيها، لكن معارك ما قبل اجتياح لبنان 1982 تطورت إلى نقلة ثانية في ذلك العام، حيث كانت أقرب إلى حرب جيوش، وفي نتيجتها كانت ذات نتائج سياسية وعسكرية بدت حاسمة في تشتيت القوات الفلسطينية وقيادتها، وفي طيّ صفحة شكل الحرب الفدائية.. إلى الحربين الشعبية والسياسية.
مع الانتفاضة الأولى يمكن القول ببداية عبقرية شعبية في المقاومة، حيث أصبحت الانتفاضة نمطاً فلسطينياً وتعبيراً دولياً متداولاً، كما كانت الفدائية نمطاً فلسطينياً وتعبيراً دولياً متداولاً.
سننتظر فوضى الربيع العربي، لنتوقف قليلاً عن ذمّ أوسلو، التي نقلت البندقية الفلسطينية من كتف عربي رخو إلى صخرة سياسية على صدر إسرائيل، وإلى عبقرية شعبية فلسطينية في تغيّر نمط الانتفاضات الثلاث، فإلى خلاصة عسكرية إسرائيلية هي أن لا حسم عسكرياً في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، كما يقول جنرالات إسرائيل بعد خدمتهم.
ماذا عن الحسم السياسي؟ نجحت السلطة في جعل الحل الدولي المطروح متوافقاً مع الحل الفلسطيني، وهو "الحل بدولتين" إلى أن يتحقق الحسم السياسي بالنقاط، قد يستغرق الأمر، زمنياً، ما أخذه فشل الحسم العسكري ضد الحرب الفدائية.
خلال ذلك، قد تخبو انتفاضة "الأفراد" و"الذئاب المنفردة" وسلاح "السكاكين والدهس"، ثم تتجدد في "عبقرية شعبية" ذات نمط انتفاضي جديد، وشرارة مفاجئة أخرى لانتفاضة رابعة وخامسة، لأن ميزان الإرادات الفلسطينية سيظل مقابل ميزان القوى الإسرائيلية، خاصة بعد أن أصبحت أرض البلاد هي مركز الثقل والعمل السياسي والشعبي والانتفاضي والديمغرافي الفلسطيني، وليس أرض المنفى والشتات.
في الحروب هناك قانون: يخسر من يفرقع أولاً، لكن في الصراع الفلسطيني وحروبه سيقال: ينتصر في النهاية من يصمد أكثر.
حروب إسرائيل الخاطفة مع الجيوش وصراعها الطويل مع الفلسطينيين!
"نُص العالم، ونص فلسطين"
هذه عبارة الفلاح سميح (أبو خالد) الذي يذود عن قطعة أرض مساحتها 20 دونماً في ضواحي قرية اللبّن، جنوب نابلس بـ 20 كيلومتراً، ويرفض عرضاً من المستوطنين بـ20 مليون دولار، لإكمال الطوق الاستيطاني حول القرية.
أتشوّق لإطلالة ثانية على قطعة أرض بين تلتين فيها نبع ماء عين المستوطنين الحمراء عليه. وصلني سلام منه.
هذا الصمود كلّف (أبو خالد) تحرشات من متواطئين مع المستوطنين، أدّت إلى خسارة ابنه إحدى عينيه؛ وإلى 23 دعوى قضائية استيطانية أمام المحاكم الإسرائيلية لإجباره على بيع أو إخلاء أرضه.
يحتاج أبو خالد إلى دعم من محامين فلسطينيين ويهود أيضاً، حتى تحكم محاكم إسرائيل ببطلان دعاوى المستوطنين. يحتاج، أيضاً، إلى التفاتة سلطوية لتكريم وتوسيم دفاعه العنيد عن عبارته الأثيرة: "فلسطين في نص العالم، وأرضي في نص فلسطين".