هكذا يتبدّى لي أو يتراءى. أتملّى المطوية ـ (البروشور) بعدما أتملّى هيكلاً خراسانياً. أنت وأنا ننتهي إلى عظام، وهذا الهيكل على التلّة تقول مفردات المطويّة إنه سيكتسي جلداً، من بعد إكساء الهيكل بما في الأحشاء من أعضاء، وبما فيهما من شرايين وأوردة وأعصاب.
عن ماذا أحكي؟ عن مركز ثقافي كان في دارة جميلة وقديمة، ذات طبقة واحدة، مستأجرة أو مملوكة، سيصير مركزاً «في خدمة الثقافة والتربية في فلسطين والعالم العربي»!
الدارة الصغيرة في حي الماصيون ستكبر وتنتقل إلى مبنى متعدد الطبقات مساحته 7730م2 في حي الطيرة، ليس بعيداً سوى بربع قوس دائرة عن ميدان نيلسون مانديلا، سيكون «مؤسسة عبد المحسن القطّان، ولعلّ الناس سيعرفونه كمركز فلسطين الثقافي.
تحت الجلد، فإن أطراف جسم الإنسان أربعة، وتحت جلد الهيكل العديد من أعضاء الأحشاء والشرايين، وتقول المطويّة إن مرافق هذا الصرح الثقافي تتوزع إلى 11 مرفقاً، بما يجعله يشمل مجالات الثقافة كلها أو جلّها، ويضيف إليها مقهى ومطعما، وصالة رياضية، وحتى غرف الإقامة!
تحتل المكتبة الحيّز الأكبر، ويتعدّى ما فيها الكتب والدوريات إلى أقلام وأقراص مدمجة، وفضاءات قراءة ودراسة. هناك صالة عرض (غاليري) وأستوديو فنون بصرية وأدائية، ومسرح صغير.. إلخ.
هذه سنة ملعونة الذكرى: قرن على بلفور، نصف قرن على الاحتلال، وهي، أيضاً، سنة ثقافية ميمونة في بناء بنية ثقافية للدولة: المتحف الوطني في بيرزيت. متحف عرفات في رام الله. تحويل قصر الضيافة مكتبة وطنية، وإعادة هيكلة وتحديث المسرح البلدي القديم في رام الله.
في فجر واعد للسلطة الوطنية، كان عرفات يسأل: أين روتشيلدات فلسطين؟ بعضهم انصرف إلى ميادين عمرانية ـ عقارية ـ تجارية ـ مالية شتّى؛ وأما عبد المحسن القطّان بالذات، فانصرف إلى الاستثمار في البنية الثقافية للشعب وللدولة، وهذا بالطبع، دون لقاء وعائد مادي.
تأثرتُ حقاً وعميقاً، لما رأيت صورة للمحسن الثقافي الأول في فلسطين، يتفقد هيكل صرحه، ويُسنده من أحد ذراعيه ابنه عمر، وآخر من ذراع أخرى.
عسى أن يمدّ الله في عمره ليقصّ شريط افتتاح أهمّ صرح ثقافي في فلسطين.
بدأ عبد المحسن في بناء أساس آخر وأهم، وعلى مدى سنوات، توزّع مؤسسته جوائز للمبدعين الشباب في كل مجال: من القصة والرواية، إلى الشعر، وإلى الفنون التشكيلية وغيرها من مجالات الإبداع الشبابي.
نعم، لدينا جوائز فلسطينية عدّة سنوية للمبدعين الكبار، ويحصل فلسطينيون على جوائز عربية وحتى عالمية، لكن لعلّ جوائز مؤسسة القطّان للشباب تبدو موزونة ومستحقة أكثر من غيرها، ربما لأن سواها للتكريم أحياناً. وعن مجمل الأعمال أحياناً.
ما هو استثناء صرح ثقافي مؤسسة عبد المحسن القطّان؟ وحده مع المتحف الوطني في بيرزيت من المباني «صديقان للبيئة» ووحدهما يصنّفان مبانيَ «خضراء» في استخدام موارد طاقة نظيفة من الشمس.
ما تبنيه مؤسسة القطّان للثقافة وأجيالها يتعدّى فلسطين، ويمتدّ إلى الشتات الفلسطيني في بلاد عربية، وحتى إلى لندن مثلاً.
كانت النيّة، وكان القصد والتخطيط، أن يواكب افتتاح صرح المؤسسة أيام السنة الجارية المحمّلة بالتواريخ، كما افتتاح مبنى المتحف الوطني في بيرزيت، ومتحف عرفات في عرينه ومقاطعته وضريحه، ولا بأس أن يتأخّر افتتاح أهمّ صرح ثقافي شهوراً، بل سنة أخرى، وربما فترة أطول، قليلاً أو كثيراً، لتعمل مرافق الصرح في طاقة قوة الزخم المخطط لها.
ليكن، أن أوسلو السياسية خيّبت الرجاء المأمول منها وطنياً؛ ليكن أن السلطة الفلسطينية خيّبت الآمال المعقودة عليها سياسياً وإدارياً.. لكن صارت فلسطين هي مركز الثقل الفلسطيني على أصعدة عدة: ديموغرافياً، واقتصادياً، وثقافياً، ومؤسساتياً، وعلى حداثة الإدارة الفلسطينية عربياً، فإن أحوالها ومنجزاتها تتقدم على إدارات دول عربية مستقلة.
سوف يُشار، في كتب التاريخ الفلسطيني اللاحقة، إلى أن رجالاً على غرار عبد المحسن القطّان كانوا من بناة فلسطين الجديدة، الناهضة من النسيان والركام. يكفيها أنها كرّمت بطلها القومي وشاعرها القومي كما لم تفعل دولة عربية.
ليست مؤسسة ياسر عرفات ومؤسسة عبد المحسن القطّان سوى نواتين من أنوية نهضة فلسطين: جامعات جديدة، مستشفيات جديدة، مدارس أخرى، ونهضة عمرانية غير مسبوقة منذ الاحتلال. الكميّة تصير نوعيّة!
روتشيلدات فلسطين؟ لعلّ عبد المحسن القطّان من أوائلهم، وربما من أكثرهم نفعاً أو عائداً في الغد لجيل ثقافي فلسطيني جديد.
لقد كان عصامياً شاباً في زمن النكبة، واستحق اسمه «عبد المحسن» لشعبه وبلاده في زمن النهضة.