حسن البطل
لدورة الوقت أن تتنفس شهقة (أو زفيرا)، وشهقة الاسبوع يوم الجمعة، ويوم الجمعة شهقة (أو زفير) عامود أيام الاسبوع. الجمعة "يوم سبات" الاسبوع الفلسطيني (والعربي والاسلامي) ويليه سبات السبت اليهودي، بينما يوم السبات اليهودي هو يوم حشر ويقظة الشارع الفلسطيني.
في شهقة اليوم الجمعة ستقرؤون في صحف السبت تقديراً لاعداد المصلين في المسجد بعد "تسهيلات" اسرائيلية لدخول القدس أيام وجمع شهر رمضان.
في شهقة يوم الجمعة الاخيرة تساءلت : "هل تحبّ رام الله" واجابت المقدسية (ف.ع) بنكشة لاذعة مزدوجة، لأنني مقيم - ساكن في رام الله، ولأن رام الله، ولو كانت "عاصمة الفلسطينيين" كما قلتُ، لا تضارع في شيء "عاصمة فلسطين" القدس. لا خلاف بين "عاصمة الفلسطينيين" و"عاصمة فلسطين".
ذكرتني النكشة المقدسية بقصة طريفة رواها الأديب السوري محمد الماغوط عن صديقه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب. هاكم ملخصها: في أول ندوة شعرية للسياب في بيروت، أحاقت الحسناوات بالشاعر في نهايتها، بينما انتظر الأديب موعداً مضروباً لسهرة ثنائية مع الشاعر، لكن الشاعر أشار بيده للأديب ان ينصرف، فقد يحظى بموعد حميم مع معجبة حسناء من الحسناوات، وكان الأديب يعرف انهن سيتركن الشاعر وحده، ولو لأن السياب لم يكن وسيماً وان كان شاعراً مجيداً ومجدداً.
نهاية الواقعة سأكتبها أنا، من وحي ما جاء في قصيدة للشاعر مخاطباً زوجته بما معناه: أحبيني فكل نساء أحببتهم لم يحبّوني.
إذن، هل أقول ان كل المدن التي احببتها لم تحبني "كلما أحببت عاصمة رمتني بالحقيبة" كما قال درويش، ولكنني استثني من المدن نيقوسيا، ومن البلدان قبرص، حيث عوملت هناك بعد خروج بيروت باحترام واعتبار كمقيم أجنبي، يطير ويحط في مطار لارنكا بيسر وسهولة، واعتقد أنني طرت من مطار لارنكا وهبطت فيه طيلة ١٣ عاماً، اكثر من اي مطار آخر. درويش قال بعد بيروت: "مطار اثينا يوزعنا على المطارات" ولي أن اقول. مطار لارنكا!
ما الذي يميز حبي لرام الله على حبي لنيقوسيا؟ ربما هذا السؤال العبيط الذي سألته بعد ٤٦ سنة في بلدان ومدن المنفى: لو ان عملاقا اسطوريا احتضن بكفيه جمعاً من الناس، فكم يكون بينهم فلسطينيون؟ بالطبع في فلسطين ومدينة رام الله بالذات، فهي "عاصمة الفلسطينيين" إن كانت القدس عاصمة البلاد الفلسطينية... ومن ثم؟ ليست رام الله عندي مثل زوجة السياب عنده: أحبيني فكل نساء احببتهم لم يحبوني.
كثيراً جداً ما أحببت القدس في المنفى وقبل هذا الجدار، وقبل هذه الانتفاضة الثانية، وقبل أن يلزمني تصريح، او "تسهيلات" اسرائيلية في شهر رمضان .. ومن منا لا تأخذه اغنية فيروز عن القدس العتيقة وأسواقها وزواريبها، وعراقة قلبها الحجري الثقيل، وبواباتها واسوارها البديعة، مقابل سورها الحالي وبوابات عبورها الصارمة - العابسة - المذلّة بحيث اسماها الفلسطينيون "معّاطات" كمعاطات نتف ريش الدجاج المذبوح.
لا أتذكر عن أية مدينة قال عنها الشاعر القديم: "الفتى العربي فيها غريب اليد والوجه واللسان" ويجعلك "التصريح" و"التسهيلات" الرمضانية للفلسطينيين غير المقادسة تشعر انك "غريب" في عاصمة البلاد الفلسطينية ومهوى فؤادك.
عدا القدس فإن الخليل ونابلس هي مدن عريقة وعابقة اسواقها وقلبها الحجري الثقيل بتاريخ البلاد وحاضر اهلها، ولكن ليست اي مدينة اخرى في هذه الضفة من فلسطين هي "عاصمة الفلسطينيين"، وبخاصة العائدين منهم من المنافي بعد اتفاقية اوسلو.
لم اتنقل بين العواصم والمدن كما تنقل محمود درويش، ولم اطف بدول العالم كما طاف "طائر الفينيق" ياسر عرفات، والاثنان وجدا مستقر اخيرا في ثرى رام الله، ودائماً أقول لنقاد اوسلو انها انقذت م.ت.ف من الضمور والتلاشي بحكم انقطاع رفدها عن المخيمات ودول جوار فلسطين، وبحكم تقدم العمر بكوادرها .. وها هي تتجدد في ارض البلاد بعد ان "ختيرت" وهرمت في المنافي، فقد تلافت مصير "مجاهدي خلق" الايرانية.
أعرف شعراء من المنفى من مدن البلاد استقروا في "عاصمة الفلسطينيين" ولو كان السياب شاعراً فلسطينيا لربما قال هجاء او قال مديحاً في رام الله، لكنه قد يقول عنها ما قاله لزوجته: احبيني فكل نساء احببتهم لم يحبوني.
انظروا الى شوارع رام الله ولوحات سياراتها لربما كان المقادسة يقولون عنها ما قاله السياب عن حبه لزوجته .. سوى أن رام الله ليست "زوجة قلبي".