حسن البطل
ماذا ننتظر؟ الكثير، ومنه ان يعنون مثلاً مؤلف ما كتاباً له: "أربعة أيام هزت العالم" على منوال كتاب الأميركي جون ريد عن الثورة البلشفية الروسية: "عشرة أيام هزت العالم".
.. او تتمة لكتاب العبقري المصري الجغرافي جمال حمدان (١٩٢٨ - ١٩٩٣) عن مصر "دراسة في عبقرية المكان" معنوناً "دراسة في عبقرية شعب مصر".
لماذا؟ هذا حدث أبعد وأعمق من عبارة "في ما تعيه الذاكرة" إلى أبعد وأعمق من عبارة "في ما دونته بطون وأمهات الكتب". ميدان التحرير "أم" ميادين مدن الدنيا.
لا أدري من قال ومتى قيل: التاريخ قد يكرر نفسه، احياناً، في شكل ملهاة، فإذا تكررت الملهاة جاءت مأساة .. لكن أربعة أيام غيرّت مصر الإخوانجية الى مصر المصرية وهزت العالم لم تكن لا ملهاة ولا مأساة، وإنما عبقرية شعب مصر الذي صنع، خلال عامين ونصف، ثورتين شعبيتين، الثانية تصحيح للأولى .. وأقوى.
بعض الزملاء، مثل حسن خضر، استعاروا من علم الزلازل، وقالوا، قبل انتصار شعب الميادين الحاشدة، ان الأمر أشبه بحركة ارتدادية لزلزال ٢٥ يناير، الذي استمر ١٨ يوماً.
عادة، في علم الزلازل تكون الموجة الارتدادية أضعف، لكنها في الثورة الثانية كانت اوسع وأقوى، الأولى أطاحت بحكم ثالث رئيس عسكري منذ ثورة يوليو ١٩٥٢، والاولى بحزب إسلامي، تشكل قبل ٨٠ سنة.
لا بأس أن يكون شعار الثورة الاولى "يسقط حكم العسكر" والثانية "يسقط حكم المرشد" والمفارقة في الحالتين ان الجيش انحاز الى الشعب في الثورتين.
في الثورة الاولى كان "ميدان التحرير" لكل شعب مصر، وفي الثانية انقسمت الميادين ديمقراطياً بين مؤيدي الحزب الحاكم ومعارضيه. وجوم في ميادين المؤيدين، وألعاب نارية في ميادين المعارضين، بعد البيان الثاني لقيادة الجيش عن تنحية الرئيس.
المسألة ليست كل الجيش ومعظم الشعب، بل هناك طرف ثالث مؤثر هو جهاز القضاء، فحتى قبل تنحية الرئيس بساعات نقضت المحكمة الدستورية العليا قرار الرئيس بتنحية النائب العام وتعيين نائب عام آخر، وأعادت النائب العام المقال الى منصبه. القضاء المصري ناكف عبد الناصر والسادات ومبارك.. والإخوان.
إذا احتشد في الميادين الشعبية المعارضة ٣٠ مليونا، اي اكثر من الـ ٢٢ مليونا الذين وقعوا على بيان حركة "تمرد"، فإننا لا نستطيع وصف موقف الجيش بانقلاب عسكري، لأنه انحاز الى الاكثرية الشعبية الساحقة، ولأنه سلّم السلطة الى رئيس المحكمة الدستورية العليا، لا إلى "مجلس قيادة الثورة" بعد انقلاب ٢3 يوليو ١٩٥٢.
الرئيس المخلوع وحزبه رفعوا شعارات "الشرعية" الدستورية، متناسين ان الشرعية الشعبية هي الأصل، وان "شرعية" دستورية حاولت تطبيق "الشرع" و"الشريعة"، او بالأحرى "الأخونة".
هناك من يختصر المسألة بثورة العلمانيين على المتدينين. هذا اختصار مخلّ وجائر جداً، ليس لأن شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط أيدا البيان العسكري الثاني، مثلهما مثل الليبرالي محمد البرادعي، بل وأن القنوات المعارضة، مثل cbc كانت تقطع التغطية الحية لجماهير الميادين بأذان الصلوات الخمس.
إذا كتب جمال حمدان عن مصر وعبقرية المكان، فقد نذهب الى عبقرية اللغة العربية حيث "الشارع" هو جذر الشرعية والمشرّع والمشروع، أما مشروع الاخوان فهو السيطرة على الجامع والجامعة والمجتمع.
بعض انصار "شرعية" حكم الاخوان عادوا بنا الى عبارة الخليفة التقي عثمان بن عفان: إذا وافقت على الخلع، لن تكون إمامة مسلمين من بعدي. لا يصلح القياس القديم على القياس الحديث، كما لا يصلح القول: يتكرر التاريخ مهزلة ثم مأساة.
هل انتهت مشاكل مصر بعد ثورة التصحيح؟ كلا .. فهي تحتاج عملية جراحية لمكانتها العربية والدولية، ومن قبل للفقر والبطالة، وهذا رهن سلاسة عملية الانتقال الى حكم منتخب، ورئيس مدني لدولة ديمقراطية ودولة جميع شعبها.
دقّت ساعة الإصلاح الكبير .. وساعة "نهضة مصر" .. وبداية النهاية لمشاريع "اخونة" ثورات الربيع العربي.
من مصر المنسجمة والمستقرة عموماً، تحصل مفاجآت مثل مفاجأة "حرب اكتوبر" و"٢٥ يناير" والآن المفاجأة الثالثة .. ونرجوها بمفاجأة إرساء ديمقراطية، عربية، قيل انها مسألة سنوات طويلة.