بيت الشيخين

بيت الشيخين

بيت الشيخين

 تونس اليوم -

بيت الشيخين

حسن البطل

البيت مسكون بالإنسان عادة. هناك بيوت "مسكونة" بالجان وحده.. وبيوت سواها مسكونة بالإنسان وأطياف الجان.. وهذا البيت الفريد من بيوت قرية دوما كان، وحده، مسكوناً بأخوين شيخين، بشري وجني، وبعائلتين من اللاجئين، عائلتي إحداهما. إنه بيت فريد حقاً، لأن سورية كانت فريدة بلاد اللجوء الفلسطيني؛ وهذا اللجوء كان فريداً بدوره. خذ مقداراً من العدس (السوري) واخلطه بمعشاره من الأرز (الفلسطيني).. ثم انعف المزيج في حواري قرية دوما. هكذا، توزع اللاجئون، فلاّحون من السهل الساحلي الفلسطيني، بين ظهراني مجتمع فلاّحي سوري نموذجي، في قرية من قرى غوطة دمشق، التي كانت، بدورها، نموذجاً عن مجتمع فلاّحي في هذا الحقل الداخلي الفسيح. إنه بيت فريد حقاً. لم يتجمّع فلسطينيو دوما في حارة من حواريها (أذكر منها: حارة الشمس، وحارة الجورة) لكنهم لم يساكنوا مضيفيهم.. إلا في "بيت الشيخين" هذا. سأكتشف، لاحقاً جداً، أي وقت كتابتي هذه السطور بعد ستين سنة، الفارق الطفيف في وحدة اللغة ووحدة المذهب (سابقاً جداً، علمت من والدي، وقت أداء فريضة الجمعة في "الجامع الكبير"، أننا مسلمون شوافعة، وأهل البلد مسلمون حنابلة). حركة اصبع سبابة يد أبي اليمنى أثناء الصلاة دفعتني للسؤال.. فحظيت بجواب أعبأ به، ووالدي لم يعبأ. لا عتب على اختلاف اللهجة في وحدة اللغة، لأن لهجة "الدوامنة" تختلف عن لهجة "الشوام" الأصليين.. فكيف بلهجة لاجئي قرى الساحل مع لهجة أهل قرى الغوطة. العتب على عادات تختلف في الزي (النسوي، الرجالي.. والولاّدي معاً). عادات المأكل تختلف.. وأشد الاختلاف كان في مكانة المرأة قبالة الرجل وفي قيادة العائلة. نساؤنا سافرات الوجوه (مع تلك الحطة البيضاء، منذ زمن "ستنا مريم" التي تترك ذؤابة الشعر وجدائله للضوء والريح).. وأيضاً سروال الرجال (البنطال) مقابل "شروال" أسود فضفاض لرجال البلد، كباراً وصغاراً.. .. ونحن الأولاد كنا نختلف، منتعلين هذه "الصناديل"، والشورتات القصيرة صيفاً.. وبالذات، هذه "الشيطنة" التي كثيراً ما "طلّعت دين" أحد الشيخين؛ الشيخ - الشيطان، وأخرجته من غرفته - صومعته صارخاً، مرغياً مزبداً مستمطراً أشد اللعنات على "الفلسطينية".. حتى يأتي درك القرية مستبيناً وقوع عراك و"طوشة".. أو، غالباً، يخرج الشيخ الكبير الطيب، زاجراً شقيقه: "استحي.. وفُوتْ لَجُوَّه". سأقول، الآن، إنه شيخ جبان.. وإلاّ، هل جرؤ مرّة على رفع عقيرته بوجود أبي.. الأبيّ المعضّل الذراعين.. كما تتصورون فلاّحاً وبناءً، وعامل مقلع حجارة.. ومحارباً أيضاً. حقاً، كنا حفنة قليلة "الرز" وسط حفنات كثيرة من "العدس" في هذه القرية، التي ما دخلها غريب أو طائفة غريبة.. إلا نحن اللاجئين من الساحل الفلسطيني. لكن، ماذا يفعل أولاد اللاجئين - الشياطين، غير الذهاب قاطبة إلى المدارس (مدرسة الوكالة.. ومدارس الدولة معاً).. وغير تكسير "فناجين" أعمدة الكهرباء (القونزيلا) بنقفات الحجارة، والسطو على المحاصيل في الحقول، والثمار على الأشجار، ولعب الطابة؟.. والكثير من الصياح في حواري القرية، وعرَصات البيوت. كانت لأولاد اللاجئين طريقة صحيحة في المخاشنة (المباطحة) وطريقة صحيحة في اللكم بالقبضات (البوكس) وطريقة صحيحة في رمي الحجارة.. وهكذا، دائماً ننتصر على العصابات المناوئة من صبيان البلد.. وكذا، براعة أسطورية في صيد العصافير (بالنقّيفة) المسمّاة (شعب) هنا.. ولا نتورّع عن انتهاك حرمة الجوامع، حيث تكثر صغار أسراب (اليمام) الآمنة (الستينية). شاع في القرية (وحيثما حلّ اللاجئون) أن أولاد اللاجئين شياطين و"ما لهم دين".. وخصوصاً في فصل الصيف، حيث تخلو حارات القرية من صبيان البلد، الذين يذهبون لـ (الصيفي) أي رعاية وقطاف المزروعات الصيفية. الشيخان كانا أعزبين.. بلا حريم ولا أولاد، وهذا يفسر كيف قبلا بمساكنة لاجئين في بيت واحد، متعدد الغرف. فجاءة، يخرج الشيخ الشرّير من صومعته صارخاً: "يا فلسطينية اللّه يلعنكم.. يقطع نسلكم. اللّه لا يردكم لدياركم".. كان يجعل أحلامي كوابيس.. ولياليّ بيضاء، فلا أغفو، أحياناً إلاّ أول الفجر، ومع "قرقعة" إبريق ماء الصلاة للشيخ الطيب، وكان اسمه أحمد. مات أحمد، فأخذنا غرفته الفسيحة ذات الشبابيك الملوّنة. مات الشيخ الشرّير، فأخذ عمي وأولاده غرفته.. وعاد أخي من شغله مع "أرامكو" في السعودية.. فانتقلنا إلى بيت آخر.. فآخر، بلد آخر، قارة أخرى. وبيت الشيخين بقي خارج القول: لك يا منازل في القلوب منازل. نقلاً عن جريدة " الأيام" .

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بيت الشيخين بيت الشيخين



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 06:31 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

تنعم بأجواء ايجابية خلال الشهر

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 15:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 09:20 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

فوائد صحية وجمالية لعشبة النيم

GMT 18:17 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

إنجي علي تؤكّد أن مصر تتميز بموقع فني عالمي رفيع

GMT 13:10 2013 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الــ " IUCN"تدرج "الصلنج" على القائمة الحمراء

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia