كان للبروفيسور إبراهيم أبو لغد هاجس تلاشى بعد الانتفاضة الأولى، وهو: كنتُ أخشى أن يتشعّب الشعب الفلسطيني شعوباً.
هل تلاشى هذا الهاجس؟ هذا هو السؤال الصحيح، وفي ضوئه يمكن أن نرى الشطط والغلط، الصواب والخطأ في قيام وفد سلطوي فلسطيني بتقديم واجب العزاء، في قرية جولس، بمصرع الضابط، ميجر جنرال (عميد؟) منير عمّار، ابن الطائفة الدرزية.
في مواقع التواصل الاجتماعي تغلّبت الإدانة على التنديد، بما يفوق اللغط حول موقف السلطة من الانتفاضة الثالثة، أو موقفها من التفاوض، أو الخلاف بين دعاة «الحل بدولتين» ودعاة الدولة المشتركة أو الواحدة.. أو الكونفدرالية مع إسرائيل والأردن.
لفترة من زهاء الشهرين، شغل الضابط، ابن قرية جولس، منصباً رئيساً/ قيادياً في الإدارة المدنية الإسرائيلية، التي تحاول أن تكون سلطة فوق السلطة الفلسطينية.. أو تشاركها وتنافسها سلطاتها.
لقي ضابط درزي رفيع في الجيش الإسرائيلي حتفه في حادث سقوط طائرة كان يقودها في الجليل، فهل لاقى مصرعه في عمل عدائي حربي ضد الفلسطينيين سوف يختلف الأمر؟ هذا سؤال جانبي.
بعد أقل من أسبوع على الحادث والعزاء، استقبل رئيس السلطة في مقره الرئاسي وفداً فلسطينياً درزياً، وفيه كرّر الرئيس تقديم تعازيه بوفاة الضابط منير عمار.
بينما ضربت الصحف الفلسطينية على وتر التجاهل والصمت لزيارة وفد سلطوي قرية جولس، لكنها غطّت وقائع اللقاء، وماذا قال رئيس السلطة لوفد برئاسة الشيخ زيدان العطشة، وماذا ردّ رئيس الوفد على ما قاله رئيس السلطة.
ليس لإسرائيل ـ الدولة سياسة إزاء الشعب الفلسطيني كشعب، بل لها سياسة درزية، وأخرى بدوية، وثالثة مسيحية. هذا فيما يتعلق بالشعب.. وجميعها يخص الفلسطينيين في إسرائيل، أما في ما يخص سياستها إزاء الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية، فهي تميز بين غزة والضفة، ولا تميز بين كل شكل من أشكال المقاومة للاحتلال وشكل من أشكال الإرهاب (مسلح. شعبي. دبلوماسي. سياسي).
في المقابل، فإن سياسة السلطة، ومن قبل المنظمة، ومن قبل الحركة الوطنية الفلسطينية، ترى أن الطائفة الدرزية جزء من الشعب العربي الفلسطيني، وأن الضابط جزء من طائفته. كما ترى الآن أن غزة جزء من الدولة الفلسطينية.
إذا كانت إسرائيل، الحالية خصوصاً، ترى أنها «دولة الشعب اليهودي» في إسرائيل والشتات، فإن السلطة الفلسطينية ترى في «دولة فلسطين» أنها تخصّ الشعب المقيم في البلاد والشتات.
رئيس السلطة، حالياً وسابقاً، التقى شخصيات ووفوداً من الفلسطينيين في إسرائيل، كما التقى ويلتقي حتى بوفود إسرائيلية يهودية من أحزاب مختلفة، وبينهم ضباط سابقون في الجيش الإسرائيلي، وبرلمانيون ورؤساء أحزاب!
في هذه اللقاءات يتحدث رئيس السلطة عن إيمانه بالسلام، وفق «الحل بدولتين» لكنه في لقاء الطائفة الدرزية في إسرائيل تحدث بصياغة مختلفة وفلسطينية عما يرونه في إسرائيل سبب أزمة في علاقة يهودها برعاياها الفلسطينيين، أي المشكلة الكؤود في العلاقة بين «دولتي» إسرائيل و»قوميتي» العربية الفلسطينية.
رئيس السلطة تحدّث عن الطائفة الدرزية في إسرائيل بوصفها «جسر سلام» بين «دولة» ينتمون إليها و»قوم» ينتمون إليه وكلنا عرب فلسطينيون: مسلمون ومسيحيون وموحدون (بني معروف).
صحيح، أن الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة يخوض مع إسرائيل معركة حول الكيانية الوطنية، والدولة المستقلة، لكن هذا جزء من صراع البقاء، والشعب الفلسطيني في إسرائيل كسب معركة البقاء في أرضه، بينما الشعب في الأراضي الفلسطينية كسب معركة إبراز اسم وكيان فلسطين.
الشيء الأساسي في كلمة رئيس السلطة إلى وفد الطائفة هو: الصمود والصبر «عندما نقول نصمد نتعلم منكم، لأنكم صمدتم في أرضكم، ولم تستمعوا إلى نداءات الآخرين التي كانت تقول: «اخرجوا»!
الآن، منذ يوم الأرض الأول، صار على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، أن يتعلم من شقّه في إسرائيل، حيث تشكلت أطر مشتركة كانت قمتها تشكيل قائمة مشتركة، تجمع اتجاهات وانتماءات الشعب الفلسطيني السياسية، وتضامنت مع الحركة الإسلامية ـ الجناح الجنوبي، ثم أخذت موقفاً موحداً من مسألة يهودية دولة إسرائيل، وحق النواب الفلسطينيين في التضامن السياسي إزاء مشاريع تشريعات إقصائهم عن ديمقراطية إسرائيل.
ليست المسألة هي إخضاع بعض طوائف وفئات الشعب إلى الخدمة في الجيش الإسرائيلي، بل هي وحدة الشعب في معركة المصير والمساواة والسلام العادل.
هناك من يقرأ الشعب والطائفة والضابط، وهذا حال سياسة السلطة والمنظمة، وهناك من يقرأ الطائفة والضابط والشعب وهذا حال الوفد الدرزي الذي استقبله الرئيس، وهناك من يقرأ: الضابط والطائفة والشعب، كما هو حال سياسة إسرائيل.
الطائفة الدرزية متماسكة دينياً، سواء في سورية أو في لبنان أو الأردن وفلسطين، لكنها ذات اتجاهات سياسية مختلفة كحال بقية شعبها، فهي عروبية في سورية، وتقدمية في لبنان، وجزء من الشعب الفلسطيني في إسرائيل.
مع التفتيت الطوائفي والديني والمذهبي الذي يضرب قسماً من جسم العالم العربي ودوله، من المهم ممارسة سياسة وطنية فلسطينية ترى في الفلسطينيين شعباً واحداً في تقرير المصير والمساواة والسلام، حتى لو كانت هذه السياسة الوطنية لا تبدو شعبية سياسياً.