ثلاث مؤسسات وطنية تعاونت وأحيت، في الناصرة ـ عاصمة الجليل والفلسطينيين في إسرائيل، مرور عقد من السنوات على رحيل القائد والرئيس المؤسس.
استوقفني هذا، لأنه جرى في الناصرة، ولم يواكبه احتفال في غزة، ولأن الاغتيال في كفر كنّا، قرب الناصرة، واكبته اغتيالات في القدس والضفة.
المؤسسات الثلاث على اسم رجال ثلاثة من أبرز رجالات فلسطين المعاصرة: مؤسسة محمود درويش (الناصرة) ومؤسسة توفيق زياد (الناصرة).. وبالتعاون مع مؤسسة ياسر عرفات (رام الله).
تعرفون أن توفيق زياد حرص على استقبال عرفات في دخول معبر رفح، ثم دخول معبر أريحا.. وعلى الطريق من أريحا إلى القدس، استعجل لحضور جلسة للكنيست، وعاجله الموت.
قال درويش، في السنوية الأولى لغياب عرفات، أبلغ رثاء، وعبارات منه صارت على كتف معشوشب لمسجد التشريفات في المقاطعة، قريباً من ضريح الرئيس المؤسس، أذكر منها: ".. كان عرفات الفصل الأطول في حياتنا (..) في كل واحد منا شيء منه"!
أين هي الآن؟ لماذا رفعت؟ أين وضعت؟ لا أراها في مكانها، ولا أراها في صرح محمود درويش وسأزور الضريح بعد تجديده والمسجد، وإنشاء متحف عرفات.. فلعلهم نقلوها من كتف معشوشب للمسجد إلى مدخل المتحف.
في افتتاح المتحف وتجديد الضريح والمسجد، قال أبو مازن: في أقرب فرصة ستنقل رفات الرئيس المؤسس إلى القدس.
كنا وعدنا قادة شهداء توزعوا بين بيروت ودمشق وتونس أن ننقل رفاتهم إلى أرض فلسطين.. لكن، بقي أبو جهاد في الشام، وأبو إياد وأبو الهول في تونس، وأحمد الشقيري في الغور الأردني، وأبو علي مصطفى بقي في رام الله، ولم ننقل رفاته إلى مدينته في جنين.
فور مواراة عرفات الثرى، قلت: كانت المقاطعة خندقه الأخير وصار قبره في خندقه، ولم يكن يفصل بينه وبين جنودهم، في غرفته الوحيدة السالمة، سوى حائط. لما سألته قبل غيابه بشهرين: هل المقاطعة هي "قلعة الشقيف" وهل هذا الكوريدور هو "ممر الماراثون" قال: نعم.. حتى المتر الأخير!
الآن، يرفعون علم فلسطين في القدس وفي سائر أرض فلسطين، وحيث يتواجد فلسطينيون في الشتات العربي والعالمي.. وأخيراً، رفعوه في مظاهرات الغضب على اغتيال شاب من كفر كنّا، قرب الناصرة.
مع ذلك، لتبق رفات عرفات في مكانها، حتى لو صارت القدس عاصمة دولة فلسطين، ولتبق رفات الشهداء في بيروت في مكانها، ورفات شهداء حمام الشط ـ تونس في مكانها.
لم ننقل رفات الفدائيين، الذين دافعوا حتى الموت، في قلعة الشقيف الأسطورية من تحت ترابها وصخورها إلى مقبرة الشهداء ـ بيروت.. ولا تدري النفس في أي أرض تموت، ولا يهم الثوار في أي أرض يُوارون الثرى.
لعلّ في التاريخ العربي الحديث واقعة واحدة عن نقل الرفات، وكانت عندما نقلت الجزائر المستقلة رفات الأمير والثائر عبد القادر الجزائري من دمشق ـ الشام إلى أرض الجزائر.
مرت عشر سنوات، أي مر عقد، على غياب عرفات، الذي يزداد حضوراً في ذاكرة الأجيال الفلسطينية، وصار، حتى قبل غيابه، يدعى "السيد ـ فلسطين" التي تزداد حضوراً منذ غيابه؛ ومن حق إلى حقيقة سياسية.
الآن، يقول أركان في حكومتهم إن الرئيس الرابع للمنظمة، أبو مازن، يذكّرهم بعرفات. كانوا قد قالوا إن عرفات على درب الشقيري، وهذا يذكرهم بالمفتي وعبد القادر الحسيني.
صحيح، أننا اختلفنا معهم، وليس صحيحاً أننا لم نختلف عليهم، بدليل خلافنا على إحياء السنوية العاشرة لغياب الرئيس المؤسس في غزة.
الزعامات الفلسطينية، من المفتي إلى أبو عمار وأبو مازن، لم تكن موضع إجماع تام فلسطيني عليها وعلى خطها السياسي والنضالي.
لكن، هذه الزعامات يُسجّل لها أنها بقيت وفيّة للقضية التي ناضلت من أجلها، وإن اختلفت الطرق في سبيل النضال من أجلها. كانت للقادة التاريخيين لحركة "فتح" خلافات في الرأي، لكن أياً منهم لم يخذل صاحبه، وأياً منهم لم يخذل القائد العام، والرئيس المؤسس، و"سيد فلسطين".
بعد فشل قمة كامب ديفيد 2000 قام عرفات بجولة صاعقة زار خلالها حوالي 60 دولة في أقل من أسبوع. كان يرى عاصفة في الأفق، وكان معظم دول العالم تحمله مسؤولية الفشل.
الآن، بعد عشر سنوات على غيابه، تحمّل معظم دول العالم إسرائيل مسؤولية الفشل.. ويزور أبو مازن الدول "زيارة دولة" لعدة أيام في كل زيارة، وليس ليوم أو عدة ساعات كما كان يفعل عرفات.