حسن البطل
1 - "خِضاب الدّم"
"دم على الأيدي"؟ لا، على يديّ خضاب التُّوت. أحب لون هذا الخضاب على أصابع يدي اليمنى، ولا أحبه، مستعاراً، على شفاه النساء.
لثمرة التُّوت الأحمر، أو "التُّوت الشامي"، لون خضاب الدّم في عروق كائنات الدّم الحار. كلاّ، له لون خضاب التُّوت.
التُّوت الأبيض منزوع الخضاب الأحمر، كما ينزعون الدسم من الحليب (ومشتقاته). صار الدّسم سُمّاً في حضارة الاقتيات الجديدة، المهووسة بـ "الدايت" و"اللايت".
احذرِ الكوليسترول الخفيف، لأنه ثقيل العواقب، وانشدِ الكوليسترول الثقيل، لأنه حميد العواقب. "قُلْ ولا تَقُلْ" في اللُّغة؛ و"كُلْ ولا تأكُلْ" في الصحّة.
توتة شامية على قارعة درب من دروب بلدة بيرزيت، لا يعبأ بها صبيان الحارة، الذين يركضون وراء الطابة (مع قَصةِ شَعر على طريقة رونالدو).
صرتُ أطرق "درب التّوتة" بين الفينة والأخرى، لأنها درب بين صديقي؛ وصرتُ أُسلِّم على صديقي بيدي اليسرى، لأنّ يدي اليمنى "مُحنَّاة" بلونِ خضاب التُّوت.
لثمرة التُّوت لون أوراق التُّوت الخضراء، ثمّ لها لون خضاب الدّم، الأحمر القاني. فقط، عندما تنضج وتطيب، يصير لها لون "خضاب التُّوت"، مثل قطرات الدّم النازفة، عندما تتخثّر .. تتأكسد بعد عناق أكسجين الهواء.
"دمٌ على الأيدي"؟ كلاّ، على أصابع الأيدي "خضاب التُّوت" الأحمر الشامي، هل قرأتَ في تفاصيل صفحة المُنوّعات في الصحف؟ يقولون: اقطف خضاب التُّوت الأحمر (من الشجرة، إلى اليد، إلى الفم.. فإلى خضاب الدّم في عروقك). هذا هو إكسير معادلة مزبوطة بين نوعي الكوليسترول: الخفيف (الوخيم) والثقيل (الحميد) في دمك.
في شوارع الشام العتيقة، أيام الصيف القائظ، تجرّع عصير "خضاب التُّوت" في كأس نصفها ثلج مجروش.. هنيئاً مريئاً.
لماذا يُهملونه هنا، في بلادي؟ لماذا لا يستحلبون"خضاب التُّوت" ويُعلّبونه؟ إنه ينتمي، صدقاً، لحضارة الاقتيات في حقبة "دايت" و"لايت".
2 - مِدّاد وقزم!
تختفي نُوّارة نبات الكوسا (والمقاثي أيضاً) بين غابة ورقية زاحفة.. كما تداري العروس ضحكتها في ليلة دخلتها، وهي ترفل في ثوب من البياض النقي.
نُوّارة الكوسا (والقرع أيضاً) ذات طلّة بهيّة مثل "شبرة" حمراء تُزيّن جديلة التلميذة.
هذا موسم الكوسا (وبنات عمّها وبنات خالتها). هذا، إذاً، موسم "المحاشي" و"المخاشي"، بعد شتاء معطاء المطر.. وبعد حصارٍ دَفَعَ الناسَ إلى فلاحة حقلية.. وبيتية أيضاً. راح صاحبي الموظف يُقارن بين نبات الكوسا، المُهجّنة وقمينة القامة، في حاكورته، وتلك البلدية والمِدّادة في حاكورة جاره الفلاح.
الشتلة ذاتها تعطي مردوداً متقارباً من ثمرات الكوسا، المروية أو البعلية، معظم نُوّارات الكوسا، المروية والقمينة، تعقد ثمرات.. ومعظم نُوّارات الكوسا، البلدية والمِدّادة، لا تعقد نُوّاراتها ثمرات. كثير من"النفل" أو كثير من "الثمر"؟
هذه المقارنة ظالمة، لأنّ الكوسا البلدية والمِدّادة تحتاج سقاية شحيحة في مرحلة نموّ الغرسة.. ثم تعتمد على نفسها لعصر الماء من التربة وهي لن تستطيع ذلك دون أن تمتد، لتحمي أوراقها، العريضة والغزيرة، رطوبة مجالها، بدل أن تشربه أشعة الشمس اللاّهبة.
الكوسا (وباقي المقاثي) نباتات مُحبّة للماء، وامتدادها العدواني، الأشبه باجتياح أخضر، وسيلة من وسائل البقاء، وكتم أنفاس الأعشاب، غير المفيدة، حتى لا تشاركها رطوبة التربة.
.. وأخيراً، هناك الفارق في المذاق، وفارق آخر يعرفه الرجل العازب الذي يضطرّ لـ "نقر" الكوسا، دون أن يملك مهارة يد النساء في النقر أو صبرهن عليه.
في قبرص، لا يُوفّرون نُوّارات الكوسا غير المثمرة. يحشونها أيضاً بالأرز واللحمة.. ويزفُّونها عروسة صحن المحاشي. "صحتين وعافية".
الصحّة للقمة الشهيّة؛ والعافية من "غبار الطلع"، عسل النبات غير المصفّى، الذي يرقد في قعر "النُوّارة" التي تسهر.. فإذا أغمضت عينيها ماتت.
3 - "يُقَرْقِش".. حقاً!
دَخَلَتْ متعة "القرقشة" دعايات الاستهلاك على شاشة التلفاز، أو في منافسات صناعة "المقرقشات" من رقائق البطاطا والذرة.. إلخ
لا يُقَرْقِش أي شيء في الفم كما يُقَرْقِش "الفقُّوس" البلدي. هذا موسم الفقُّوس أيضاً الهارب بنفسه (ونكهته وقرقشته) من تهجين الخيار، الذي صار بلا طعمة تقريباً.
الناس تسأل، خصوصاً للمخلّلات، عن الخيار البلدي وتدفع السعر مُضاعفاً. والناس تسعى لـ "الفقُّوس" البلدي وتدفع شيكلاً إضافياً فوق سعر الخيار البلدي.
مقمّط بزغبه الناعم مثل "ربيبات الخدور". افركه قليلاً بيديك العاريتين، ليلمع كما تلمع الفضّة بعد فركها. ثمّ "قرقش" مع شيء من مذاق الحلاوة الطبيعية الخفيفة.
***
هذه تحية احترام ضرورية للنباتات، تصلك الخضراوات يانعة في القرية، أو تقطفها من حاكورتك، أو يقطفها جارك لك من حاكورته.
وحدها البندورة البلدية تبدو وقد خسرت حرب الوجود.. لكنها تقاوم هنا وهناك، لتذكّرك بمتعة مذاق "الفغم"، لا "القضم"، ولا "النتش".. ولا "الازدراد".. مع نفس مسكرة وعايفة!