لبنان بكل أبنائه، على اختلاف أديانهم وطوائفهم، رهينة لدى عصابات متطرفة مسلحة بالشعار الديني، لتمويه أغراضها السياسية، وأولها رفض الكيانات السياسية في كامل المنطقة العربية والعمل لتهديمها بكل الوسائل والأسلحة، وأخطرها الحرب الأهلية.
وتفترض هذه العصابات المسلحة أنها قد اختارت «ضحية نموذجية» يمكنها أن تحرّك عبرها المخاوف على لبنان من الفتنة النائمة.. بعين واحدة!
وما عرسال، بموقعها على خطوط التماس مع الحرب في سوريا وعليها، إلا منصة نموذجية لابتزاز لبنان بدماء أبنائه العسكريين: فموقع هذه البلدة، ذات التاريخ الوطني، معزول عن سائر البقاع بالجرود مفتوح على سوريا النازفة جراحها، ومسار الحرب فيها وعليها يؤثر في أهلها بعواطفهم ومصالحهم بل ومعاشهم اليومي.
وعرسال، بموقعها الذي يكاد يجعلها «سورية» بمصالح أهلها وارتباطاتهم العائلية، يمكنها أن تحرّك العواطف والغرائز وأسباب الرزق، وأن تكشف فضائح هذا النظام الذي يتعامل مع «رعاياه» بطوائفهم ومذاهبهم، فلا هم «مواطنون» ولا الدولة «دولتهم» حتى وكثرة من أبنائها جنود في جيشها.
وهكذا يمكن لعصابات الإرهاب المسلح بالشعار الديني أن تلعب على عيوب النظام ذاته، وأن تستثمرها فتبتزه بها.
ولأن النظام الطوائفي أقوى من الدولة تحولت عرسال بالثلاثين ألفاً من أبنائها إلى «رهينة» ممتازة: إن قاتل الجيش الإرهابيين فيها سيصوَّر هجومه وكأنه اجتياح بالنار لعرسال وأهلها... وإن هو التزم بأوامر السلطة السياسية التي تبحث عن «وسطاء مؤهلين» لمثل هذه المهمة الاستثنائية، ابتزه الإرهابيون بالجنود الذين انتدبوا لواجب إنقاذ عرسال منهم... مع التقصّد في محاولة توريط بعض أهل هذه البلدة الصابرة من الباحثين عن دور لابتزاز الدولة وأهالي الجنود في آن معاً، بالتهديد بقتلهم، بل بقتل بعضهم فعلاً والتمثيل بجثثهم وتعميم إنجازهم الإجرامي ببث الصور على وسائل التواصل الاجتماعي.
على أن النظام هو الآن رهينة بدوره: لقد قصّر تقصيراً فاضحاً في إعداد جيشه وتعزيزه بوسائل القتال الحديثة والفعالة، فلما دقت ساعة الحاجة الماسَّة إلى العمل العسكري لتحرير الرهائن من جنوده، بل وتحرير عرسال جميعاً من هذه العصابات الإرهابية، انتبه إلى تقصيره فدار يستجدي المساعدات والهبات، عربية وأميركية وفرنسية، ويحصد الوعود ثم لا توقع العقود.
وبديهي أن ينفجر الأهالي بالغضب وهم يشهدون ذبح أبنائهم الذين أسروا غيلة، لأنهم لم يزوَّدوا بالضروري من السلاح لمواجهة مثل هذه العصابات من السفاحين وإنقاذ لبنان من مخاطرها على وحدته الوطنية، بل وعلى دولته التي يعطلها أهل النظام عن الفعل.
ثم إن الرعايا اللبنانيين جميعاً هم رهائن خوفهم من تحويل جرائم هذه العصابات الإرهابية المسلحة بالشعار الإسلامي إلى «فتنة» تعصف بهم، باستغلال الانقسام السياسي الداخلي الذي ليس أسهل من تحويله إلى اقتتال بين ضحاياه على اختلاف طوائفهم والمذاهب.
لا دولة بلا جيش مؤهّل وقادر.
وادّعاء كاذب ذلك الذي يزعم أن لبنان بلد السياحة والاصطياف، وجنة العرب المفقودة، ثم إن أهله من الرقي والتمدن بحيث لا يحتاجون إلا إلى شرطة سياحية تنظم مواكب طالبي المتعة فيه، ومجموعات من العسكر لحماية أهل النظام ـ أبناء الطبقة السياسية الممتازة من الغوغاء كمثل هيئة التنسيق النقابية ومطالبها التعجيزية التي تهدد النظام بالسقوط.
وفي انتظار حلم الدولة لا نملك غير تقديم العزاء لذوي الجنود الشهداء الذين أظهروا من الوعي والحرص على الوحدة في الجرح ما يكشف الفارق الفاضح بين «الأهالي» وبين «الدولة» التي يمنعها نظامها الطوائفي من أن تكون دولة حقيقية بكل مواطنيها ولكل مواطنيها.
مع التمني بألا تذهب دماء هؤلاء الشهداء هدراً،
ومع التمني ـ أيضاً ـ بألا تستثمر هذه الدماء الطاهرة لإشعال فتنة جديدة في البلاد لطمس معالم الجريمة وتمويه هوية مرتكبيها المعلنة فوق أسنة الرماح!