طلال سلمان
يأتي الاعتداء الوحشي على الصحيفة الفرنسية الساخرة «تشارلي إيبدو» ليكمل محاولة اغتيال الإسلام والمسلمين، وتشويه صورة الدين الحنيف والمؤمنين به، والعرب خصوصاً، بتصويرهم مجاميع من السفاحين الذين يدفعهم عمى التعصب إلى قتل الأفكار والآراء والفنون والإبداع عموماً.
إنه «إسلام ضد الإسلام»، «إسلام ضد المسلمين» قبل أن يكون ضد أتباع الأديان السماوية الأخرى، بل هو «إسلام قاتل للإسلام والمسلمين»، بغض النظر عن ادِّعاءات المنفذين الإرهابيين التي لا يقبلها عقل ولا يقرها الدين الحنيف.
وفي التجارب المريرة التي عاشتها المنطقة العربية، مشرقاً ومغرباً، في السنوات الأخيرة، ما يؤكد أن تنظيمات مثل «داعش» قد آذت الإسلام والمسلمين والعرب أساساً أكثر بكثير مما آذت غيرهم من أتباع الأديان والقوميات الأخرى.
لقد أعاد هذا التنظيم بعث مناخ «الفتنة الكبرى» في البلاد العربية خصوصاً والإسلامية عموماً. وهو قد اغتال العروبة كما اغتال الدين الحنيف بنشر موجة من التعصب والكراهية بين المسلمين أنفسهم، في حين اعتبر «العروبة» بدعة شيطانية، وهكذا فقد جرّد العرب والمسلمين من هويتهم وتركهم على رصيف التاريخ وكأنهم بلا دين ولا هوية جامعة، مهدداً باغتيال آمالهم في الوحدة والتقدم ودخول العصر.
وها هو يضع العرب والمسلمين جميعاً في قفص الاتهام بالوحشية ويكاد يخرجهم من إنسانيتهم عبر الجريمة الجديدة في قلب العاصمة الفرنسية، وضد مجلة يبدع رسومها فنانون كبار، بغض النظر عن آرائهم السياسية التي قد تجنح أحياناً، وعبر المبالغة، نحو خطأ التقدير أو تعميم الأحكام على أديان أو شعوب من خلال ارتكابات قد تقدم عليها تنظيمات متطرفة لا تمثل إلا أقلية ضئيلة من المتعصبين الذين أعماهم الجهل والحقد والعجز.
هذه الجريمة «نموذجية» في تفاصيلها: فهي قد حصلت في «عاصمة النور»، ثم إن ضحاياها مجموعة من المبدعين في مجلة لها جمهورها ولها تأثيرها. أي أنها جريمة ضد الفكر والرأي والإبداع بقدر ما هي ضد الدين الحنيف وضد العرب والمسلمين عموماً. إنها جريمة ضد النور.
أما من الجانب الآخر، فإن نشوء هذا التنظيم (داعش) وأمثاله إنما يكشف حالة الخواء السياسي واندثار الأحزاب والحركات السياسية في الوطن العربي التي كانت تمثل محاولة لدخول العصر، فكرياً وسياسياً، وتوسيع دائرة الحركة أمام العصابات الإرهابية التي استغلت الفراغ السياسي بل اليأس من العمل السياسي لتندفع إلى مقدمة المسرح بادِّعاء تمثيل الأمة وطموحها المشروع إلى مستقبل أفضل.
لقد سقطت الأحزاب السياسية العربية بالضربة القاضية، منذ زمن بعيد ومعها سقط الاندفاع نحو «العلمانية»، وضُربت «الديموقراطية» وساد ضجيج الصوت الواحد المعبّر عن الرأي الأوحد «للسلطة» التي انتزعت بالقوة حق تمثيل الشعب بمختلف تكويناته وتوجهاته وآرائه ونضاله من أجل المستقبل الأفضل.
اغتال العسكر في معظم دول المشرق وبعض دول المغرب الحياة السياسية، وحجروا على الفكر وفرضوا بقرار «القائد الواحد» الرأي الأوحد.
وهذه تجربة العراق ومعها تجربة سوريا تكشف كيف تم اغتيال المناضلين في حزب «البعث» أو تعطيلهم أو تضليلهم بالمناصب أو بالتخويف إلى حد الإعدام، وكيف شطبت «السلطة» الأحزاب المتنافسة (الوطنية التقليدية أو التنظيمات الشيوعية)، وأفرغت البلاد من الحياة السياسية تماماً.
تدريجياً اختُصرت الحياة السياسية في الحزب الحاكم، ثم اختُصر الحزب بالقيادة والقيادة بالقائد، بينما حل «الجيش» محل «الحزب»، وفي الجيش حل «الأقربون» مكان القادة الفعليين، وحل الولاء الطائفي ـ الشخصي محل الولاء للوطن والأمة. وهكذا انطوت كل طائفة على نفسها وتدريجياً تعاظم العداء للطائفة الحاكمة.
تدريجياً تهاوت الدولة، وعادت الطوائف إلى السطح «باحثة عن حقوقها»، وانتفت «المواطنة» وطفقت الطوائف تحاسب الحاضر عن الماضي فتغتال المستقبل.
حل «النظام» محل «الدولة»، ثم صار «النظام» فرداً محاطاً بزمرة من المنتفعين، أقربهم إليه وبيت السر عنده أبناء طائفته ومعهم المنتفعون من نظامه.
لا يخدم الشعار في طمس هوية النظام إلى الأبد.
الاحتقان الطائفي أو المذهبي في العراق عمره حوالي قرن كامل... ولقد التهم الأحزاب الوطنية والتقدمية حين ركبت الدبابة للوصول إلى السلطة، ثم كان منطقياً أن يستولي قائد الدبابة على السلطة غير آبه بردود الفعل الشعبية ما دام هو مالك القوة وبالتالي هو الآمر الناهي.
أما في سوريا، فعمر الاحتقان السياسي يتجاوز الخمسين عاماً.
والاحتقان في البحرين عمره من عمر النظام الذي صيّره أميره ملكياً واستعان باستيراد من لا هوية لهم أو من هم على استعداد للاستغناء عن هوية الفقر التي يحملون، بهوية تؤمن لهم المأوى والمأكل والمشرب والسلاح الأميري.
والاحتقان في لبنان تسبب في حرب أهلية أطالت عمرها «الدول» واستثمرتها لاسترهان أنظمة عربية أخرى، قبل أن يُعاد تركيب النظام على قواعد طائفية جديدة تبقي مناخ الحرب الأهلية قائماً، وتوسع مساحة النفوذ الأجنبي بذريعة الحفاظ على حقوق الطوائف وحماية التوازن بينها.
غياب الدولة يغيّب المواطنة، وحضور الطائفة في الحكم يستدعي الصراع الطوائفي على السلطة، ويغيّب الدولة وبالتالي الوطن.
تدريجياً، ونتيجة لتوظيف الطائفية في السياسة، تغيب الرابطة الوطنية لأن «الدولة» سقطت في أيدي الطائفيين، وأي محاولة للتغيير في معادلة السلطة تفتح الباب أمام الحرب الأهلية. كما أن أي اتهام للسلطة بأنها منحازة إلى طائفتها يحوّل الاشتباك بواجهته السياسية إلى مشروع حرب أهلية أو فتنة طائفية.
تسقط السياسة مع سقوط الدولة. تتحول الفتنة إلى حرب أهلية فتسقط الدولة.
يعود الناس الى طوائفهم بعشائرها وقبائلها وعائلاتها، وتنتصب الحدود بين الطوائف فتنهار الدولة، ويصبح من الصعب إعادة بنائها. تلوح مخاطر التقسيم ويصير الحديث عن الفيدرالية كمشروع حل يمنع الاقتتال الأهلي المدمر للوطن والدولة والشعب. تأتي الدول فتتدخل بذريعة الحرص على الكيان فيزيد الانقسام. تسقط الصيغة السياسية القائمة ويبدأ البحث عن صيغة جديدة قد تشمل إعادة النظر في الحدود: إن لم تقبل الفيدرالية فليكن التقسيم!
مع سقوط السياسة، وبالتالي سقوط الدولة بالضربة الطائفية القاضية، تبدأ على الفور حرب الأحجام ومن ثم التقاسم بين الطوائف. يحضر الماضي على شكل انتقام من المستقبل بالحاضر. يسقط الوطن مع سقوط دولته.
أي مناخ أفضل لاستيلاد تنظيمات متطرفة قد تندفع إلى ممارسة الإرهاب بوهم أنها تعيد الاعتبار إلى صحيح الدين تمهيداً لبناء دولته العتيدة.
إن دول المشرق عموماً تعاني من اختلالات بنيوية في أنظمة حكمها تعكس نفسها مباشرة على الكيانات السياسية. وتعاظم تأثير «داعش» نتيجة لهذا الاختلال الذي انحدر من السياسة إلى الطائفية فالمذهبية. والتعصب هو ما فتح الطريق أمام «داعش» ليضرب في سوريا ثم يحتل مواقع أساسية مؤثرة في العراق، مستنداً بطبيعة الحال الى الخلل البنيوي في أنظمة الحكم، وشعور قطاعات واسعة من الشعب الذي كان واحداً موحداً بالظلم، ما حدا بهم الى خروجهم عليه أو باتخاذ موقف محايد من احتمالات سقوطه.
هذا ليس تبريراً لجرائم «داعش» وما ماثله من تنظيمات تكفيرية بشعارات إسلامية، ولكنها محاولة للربط بين ما يرتكبه هذا التنظيم من فظائع في العديد من البلاد العربية قبل أن يمد إرهابه إلى قلب فرنسا. وهو لا يتوقف أمام النتائج، ولا يدقق في ضحايا هجماته، بل إنه يختار أهدافه وهاجسه الإعلام كوسيلة لبث الخوف بل الذعر، ما يمهد لاجتياحاته. فتعظيم صورته، دولياً، يخدم أغراضه في التوسع في اتجاه إقامة «دولة الخلافة». إنه يتقصد الظهور بمظهر المتحدي لعالم الكفر جميعاً، «بالكفار الأصليين» في الغرب، و «بالمرتدين» و «مناصري الكفار» أو «الساكتين عن الكفر والكفار» في البلاد العربية ومعها الدول الإسلامية جميعاً.
إنه مهتم بصورته كشبح مخيف يقض مضاجع الدول العظمى جميعاً، فضلاً عن الدول العربية الضعيفة أصلاً.
وهو قد «نجح» من خلال اختيار هدفه في باريس: مجلة يعمل فيها مجموعة من رسامي الكاريكاتور المبدعين (حتى لو أخطأ بعضهم فانزلق إلى استخدام غير موفق لبعض الشعار الإسلامي)، بما يضمن استنفاراً دولياً يظهره وكأنه قادر على تحدي العالم أجمع!
إن تفكيره مختلف عن المألوف: فبث الذعر واحد من أهدافه، والضجة بل الاستنفار العالمي ضده يراه مفيداً لتظهيره وكأنه قوة عظمى تخيف العالم أجمع فكيف بهذه الأنظمة العربية الضعيفة أصلاً والمتهمة في صدق تمثيلها الجامع للشعوب التي تحكمها؟!
ومن أسف، فإن العرب، بدولهم الضعيفة بل المتهالكة مهما كانت ثروات بعضها، سيحاسَبون كولّادة لهذا التنظيم الإرهابي ويحاسَبون به مع أنهم ضحاياه الأولى والأخطر في حاضرهم ثم في مستقبلهم المتروك الآن في أيدي الدول الغربية.
و»داعش»، بشكل أو بآخر، شهادة تخفف من جرائم العدو الإسرائيلي وأعداء المستقبل العربي وهو منهم وفيهم بداية وانتهاء.