الشوق إلى الصندوقة

الشوق إلى الصندوقة!

الشوق إلى الصندوقة!

 تونس اليوم -

الشوق إلى الصندوقة

طلال سلمان

يعيش المواطن العربي، في مشرق أرضه الواسعة كما في مغربها، حالة مرضية يمكن تسميتها، مجازاً، الشوق إلى صندوقة الاقتراع.
حيثما وضعت صناديق الاقتراع، وبغض النظر عن موضوع الانتخابات وهل هي رئاسية أم نيابية، ينتظم الناس في طوابير للإدلاء بأصواتهم... ولا تمنعهم عن ممارسة هذه العادة خبراتهم العريقة والمؤكدة أن النتائج معلنة سلفاً وبغض النظر عن أعداد المشاركين في الاقتراع، لا سيما إذا كانت المناسبة رئاسية.
إنهم يعرفون يقيناً أن أصواتهم لا تفيد إلا في تأكيد المؤكد، وإضفاء شرعية مصورة على من اختارته المقادير رئيساً، أو من حددتهم مصلحة الرئاسة نواباً مشرعين... مع ذلك فهم يذهبون إلى المراكز وينتظمون في طوابير بشرية أمامه، يبتسمون لعدسات التصوير التلفزيونية وقد يهزهم الطرب فيرقصون ويغنون ويرفعون أصابعهم بشارة النصر، ثم يتقدمون إلى لجنة القيد بهوياتهم مبتسمين، ويغمسون سباباتهم في الدواة قبل أن يرفعوها وقد اكتست بلون البنفسج مبتهجين.
لا يهم أن يكون «الرئيس» المرشح لتوكيد رئاسته بولاية جديدة مريضاً إلى حد العجز عن النطق، والقدوم إلى مركز الاقتراع على «كراجة»، أو نقل المركز إلى القصر.
لا يهم أن يكون «الرئيس» المرشح يرغب في توكيد «أبدية» استمراره في قيادة البلاد والعباد، مهما اشتدت وطأة الفقر على الشعب ومهما تراجع مستوى الدخل القومي في الدولة وتعاظمت أثقال الديون عليها.
لا يهم أن يكون التعليم الرسمي قد تراجع نزولاً إلى الحضيض، وأن يصبح «المدرس الخصوصي» ضريبة أبدية على الرعايا الفقراء ومتوسطي الدخل، في حين تزدهر المدارس الخاصة المملوكة من تجار العلم المحليين أو من البعثات الأجنبية، برغم ارتفاع أقساطها التي لا يقدر على دفعها إلا من وفرت له «الظروف» فرصة إثراء غير مشروع، سواء بالسمسرة أو بالتجارة بالممنوع، أو بالاختلاس المباشر الذي تغطيه الشراكة مع أهل السلطة.
لا يهم أن تكون الطائفية او حتى المذهبية هي المعبر الإجباري إلى «السلطة بالديموقراطية»، فلا يفوز بالرئاسة إلا الأشرس في استخدام التعصب سلاحاً، بحيث يحول ربحه المعركة إلى انتقام متأخر لهزيمة هذه الطائفة او ذلك المذهب في السحيق من مواقع الفتنة.
كما لا يهم أن يعتبر انتصار الأقلية على الأكثرية فوزاً باهراً للديموقراطية وحقوق الإنسان، في حين يتم تصوير نجاح الأكثرية في إيصال مرشحيها اضطهاداً للأقليات.
هكذا نبتدع أشكالاً فريدة من الديموقراطية: ديموقراطية قبلية، ديموقراطية جهوية، ديموقراطية مذهبية، ديموقراطية طوائفية تسترهن الأقليات، أو ـ بالمقابل - ديموقراطية أقلوية تسترهن الأكثريات باسم مقاومة التعصب ومكافحة الطائفية.
إنه الموسم! موسم الديموقراطية بعد دهور الديكتاتوريات التي تحكمت بشعوب هذه المنطقة العربية فأفقدتها الهوية وأضعفت شعورها بالانتماء إلى أرضها، وجعلتها مجاميع من البشر لا رأي لها ولا قرار في مصير بلادها، فضلاً عن طبيعة الحكم القائم فيها وشخص «الرئيس الأبدي» الذي يتجاوز الملوك في فترة اطمئنانه إلى سلطته المطلقة وكلمته المفردة في شؤون بلاده وشعبه.
ولكن ما هي الديموقراطية وكيف السبيل إليها؟! وكيف يمكن تحويل «الرعايا» إلى «مواطنين» وبأي نوع من السحر تحول هذه القطعان البشرية إلى «مقترعين»، أي إلى أصحاب رأي وأصحاب قدرة على اتخاذ القرار في مختلف شؤون دولتهم التي لا يعرفون منها إلا صاحب الأمر المتدرج من قمة السلطة إلى الشرطي والمخبر في الشارع أو حتى في البيت، يقرر فينفذون بغير اعتراض أو نقاش، فإذا ما خطر لمتهور أو مجنون ان يسأل، خاف منه أهله وتخلى عنه أصدقاؤه وابتعد عنه محبوه مشفقين وهم يرددون الدعاء له بالشفاء العاجل!
إنه الموسم! ليسقط الاستفتاء، ولتنتصر ديموقراطية الصندوق!
ولكن الصندوق هو الصندوق.. حتى وإن سُمح لواحد أو أكثر أن ينافس صاحب الأمر!
سيختلف الشكل قليلاً. سيكون هناك أكثر من مرشح، لكن «الفائز» لن يتبدل. فقط سيفوز الآن بأرقام من قدموا إلى المركز ونالوا شرف التعبير عن آرائهم بحرية، فأسقطوا الأوراق في الصندوق بعد تقديم هوياتهم إلى اللجة الانتخابية فقبلتها وسجلت تفاصيلها وسمحت لهم بأن يغمسوا أصابعهم في المحبرة شهادة على أنهم أدوا واجبهم الانتخابي وأكدوا إخلاصهم لوطنهم عبر ممارسة الديموقراطية.
ولكن... هل هذه هي الديموقراطية؟ وهل الديموقراطية هي نبت شيطاني مستورد من بلاد أخرى من دون مراعاة «خصوصيات» هذه البلاد وأهلها الذين تعودوا أن يكونوا «رعايا» ولم تسمح لهم ظروف حياتهم أن يصيروا «مواطنين»؟
يستذكر كبار السن منهم أنهم في صدر شبابهم قد عرفوا الأحزاب السياسية والنقابات، عمالية ومهنية، والجمعيات الفكرية والأندية الثقافية والمنابر العقائدية، وأنهم كانوا يشهدون صراعاً بالأفكار ومنافسة بالآراء ومناقشات مفتوحة حول الحاضر والمستقبل، وأن المدى كان مفتوحاً بالاجتهاد وحق الاختلاف.
يستذكرون أيضاً أن الأحزاب كانت تقدم مرشحيها للانتخابات، وبينهم أثرياء ووجاهات محلية ونقابيون وأساتذة جامعات تميزوا بنشاطهم الفكري ونشطاء من بين الشباب الحزبي، يبشرون بعقائد تستهدف التقدم بالمجتمع ومغادرة ليل الإقطاع وتحكم أصحاب الثروات وعتو أهل السلطة وجبروت المرتبطين بمشاريع سياسية أجنبية المصدر ومغايرة لمصلحة البلاد ومؤذية لحقها في الاستقلال.
ثم.. توالت «النكبات»، وكانت أولاها وأفدحها ضرراً في فلسطين: لقد فضحت حقيقة الاستقلال الوهمي لدول من كرتون، لا جيوش فيها ولا قدرات اقتصادية، وأنظمة هي وريثة عهود الاستعمار، حيث كان يكفي التظاهر دليلاً على الوطنية، في حين كانت الأحزاب تجمعات شعبية خلف شعار الاستقلال بغض النظر عمن يرفعه وعن مضمون الدولة التي ستبنى لتوكيده، ومن المؤهل والقادر على إنجاز هذه المهمة الجوهرية بل الحتمية للخروج من عصر القبيلة والعشيرة والعائلة إلى عصر المواطنة في دولة لها مقوماتها الفعلية، اقتصادياً واجتماعياً وعمرانياً، وفيها من أهلها أصحاب القدرة والكفاءة والخبرة فضلاً عن الإخلاص والإيمان بالوطن والعلم لبناء دولة حقيقية تحفظ الوطن وتحقق لأهله مطامحهم في حياة كريمة.
فشلت حكومات دولة الاستقلال في إنجاز المهام المطلوبة منها، ثم فضحها العجز عن مواجهة المشروع الصهيوني المعد مسبقاً لاحتلال فلسطين وإقامة الكيان الإسرائيلي فوقها... فتهاوت الأنظمة العربية تحت ضغط انتقام عسكرها لكرامة الجيوش التي منيت بهزائم منكرة.. وهكذا ضاعت فلسطين وضاعت معها طريق العرب إلى الدولة الحديثة، ما عدا تجارب كان محكوماً عليها أن تواجه سلسلة من المهمات الثقيلة، وسط حروب مفتوحة من الخارج وبعض الداخل، فضلاً عن نقص الخبرة والقدرات وافتقاد النضج في المجتمعات التي جاءها «الاستقلال» قبل أن تكون مستعدة لبناء دولته.
ليس القصد من هذا العرض الإثبات أن الأنظمة التي تعاقبت على حكم هذه البلاد العربية لم تكن مؤهلة لقيادتها نحو مستقبلها، وأن «العسكر» هم وحدهم المسؤولون عن إفشال تجربة بناء أنظمة ديموقراطية في بلاد كانت بغالبيتها تعيش في ظلال موروثات قبلية، ثم جاءها الاستعمار الغربي فقسمها وفق مصالحه، مستغلاً تلك الموروثات سواء في تقسيمها بحسب مصالحه فابتدع دولاً لم يكن لها ذكر في التاريخ، وأعاد تقسيم البلاد بما يناسب أغراضه وبغض النظر عن توفر القدرات لإقامة دول... وهكذا مزق المشرق دولاً شتى، بينها من كان مجرد جهة جغرافية (صحراوية، كما الأردن)، وبينها ما بني على قواعد طائفية او مذهبية بما يضرب وحدة البلاد (لبنان، سوريا، العراق)... قبل أن نصل إلى الخليج حيث ابتدعت دول على قاعدة تقاسم الثروات النفطية وعزل تلك الأقطار ـ سياسياً، وبكيانات لم يكن لها ذكر في التاريخ او في الجغرافيا ـ عن الإخوة الفقراء في «الدول» الأخرى بسور من الحسد القابل للتحول إلى كراهية وخصومة.
وهكذا بات بإمكان قطر، مثلاً، وهي رأس بري نافر في الخليج العربي، أن تصبح «دولة» تصدح بالديموقراطية ليلاً نهاراً، حتى عندما يجبر الإبن أباه على مغادرة السلطة بانقلاب اخوي، او عندما تجبر الإرادة الأجنبية الأب على التنازل لابنه من دون أي مبرر عشائري او سياسي فضلاً عن... الديموقراطية.
لكأن العرب، في مشرقهم خاصة، كما في مغربهم، أمام دورة دراسية جديدة لتعلم الديموقراطية والتعرف إلى النظام الديموقراطي... ولو عن طريق العسكر!
... وقد تتدخل الطائفية والمذهبية مرة أخرى في إعادة صياغة الكيانات السياسية التي أثبتت التجارب عجزها عن الصمود أمام الحركات التقسيمية المرتكزة على موروثات التاريخ وحقائق الجغرافيا.
وبالتأكيد فليس العسكر هم المؤهلون لإنجاز مثل هذه المهمة التاريخية الجليلة، أقله: ليس العسكر وحدهم.
هل نحن بلغنا أبواب المرحلة الجدية من إعادة تكوين الدول في هذا المحيط العربي الواسع الذي لم يتعرف أهله إلى الدولة بعد إلا بصيغتها الأولية وكما رسمها الاستعمار القديم؟
تلك هي بعض من الأسئلة الخطيرة التي تواجه «الميدان» وهو يتقدم لاستكمال إنجازه التاريخي في التغيير.. في اتجاه الغد الأفضل.
من الذي ادعى أن الفلسطينيين هم "هدّارو فرص"؟ إنه وزير الخارجية اللامع أبا إيبان؟ من الذي يعطّل الآن كل فرصة للسلام؟ إنه حكومة نتنياهو!

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشوق إلى الصندوقة الشوق إلى الصندوقة



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia