طلال سلمان
في أقل من عام، تحول «داعش» الذي نبت أو استنبت فجأة، عبر الحدود التركية، في شمالي العراق وصولاً إلى الموصل التي احتلها بلا قتال، وكان قد احتل قبلها الرقة في شرقي سوريا، إلى قوة إقليمية كبرى.
لم يكن ذلك بفضل كفاءة قيادته وحديدية تنظيمه فحسب، بل أساساً بسبب فرقة القوى التي تواجهه وتناقض مصالحها، وغياب الخطة والقيادة المشتركة، سواء في الأراضي العراقية التي يحتلها أو في الأراضي السورية التي يسعى للتقدم فيها مسيطراً على مزيد من المواقع الحساسة، إما لخطورتها الإستراتيجية أو لأهميتها في سجل الحضارة الإنسانية.
لقد أمكن لهذا التنظيم الذي نشأ في العتم أن يباغت العالم كله بقوته وقدرته على الحشد وتحركه من ضمن خطة مدروسة أخذت في اعتبارها حالة الفوضى العارمة التي يعيشها العراق المنهك بانقسامات قواه السياسية المتهمة في صدق وطنيتها كما في نظافة كفها، كما سبق له أن أفاد من ضعف الدولة المركزية في سوريا الغارقة في دماء أبنائها ليستولي على بعض أطرافها المحاذية للحدود العراقية. هكذا أمكنه أن يتمدد بغير مقاومة تذكر في الصحراء الواسعة الفاصلة والرابطة بين سوريا والعراق.
وبالتأكيد، فإن الأطراف المعنية بالمواجهة، عربية وأجنبية، قد فوجئت بالحركة السريعة لهذا التنظيم وفق خطة عسكرية ساعد في إنجازها العديد من الضباط الكبار الذين أقالتهم حكومات ما بعد صدام حسين، والذين كانوا بكثرتهم الغالبة من أهل السنة، ويضمرون حقداً عظيماً على «العهد الجديد» في العراق الذي ماثل نظام صدام من موقع النقيض: كل ما حدث أن طائفة حلت محل الطائفة المهيمنة من دون أن يكون لها مشروع وطني جامع، وأنها تقدمت إلى موقع القرار برغبة الثأر والانتقام. هيمنة مذهبية فوضوية ومتخلفة محل هيمنة مذهبية كانت تحرص على مظهر الدولة وشرعية، ولو شكلية، لقراراتها.
لم تنجح السلطة الجديدة التي ركبت على عجل حاملة في داخلها تناقضات التكوين وافتقاد الخطة والضعف أمام إغراءات السلطة والمال العام المتاحة سرقته للأقوى. وكان «الالتزام» العنوان الأبرز في إنجاز تلفيقات «حكومة الوحدة الوطنية»، ومراعاة أحجام «المكونات» في صياغة إدارة الدولة ومؤسساتها، خصوصاً وقد رفع الأكراد صوتهم مطالبين بحصتهم كـ «قومية» وبالتالي ككيان سياسي مستقل عملياً، وإن راعى حقيقة أن «الاستقلال» الفعلي يحرمه إمكان القدرة على الحياة. هكذا، أخذ الأكراد حصتهم كإقليم، ثم مدوا أيديهم إلى الدولة المركزية ليحتلوا مواقع قيادية فيها (رئيس الدولة، ولو بصلاحيات محدودة، ثم وزارة الخارجية حيث مُلئت الشواغر، وما أكثرها، بموظفين أكراد احتلوا مواقع السفراء في العديد من العواصم المؤثرة، فضلاً عن وزارات خدمات ومواقع قيادية في الجيش والإدارة..).
ذهبت حكومات وجاءت حكومات والفساد يستشري والانقسام يتعمق، مذهبياً بين الشيعة والسنة، وعرقياً بين العرب والكرد. وكان الجيش أعظم الضحايا. فقد شملت «حملة التطهير» كفاءات عسكرية مميزة أو هي همشتها، وضاعت معايير الاستحقاق والجدارة في سعير الحمَّى المذهبية.
على أن الفساد وانحلال مؤسسات الدولة قد بلغ ذروته خلال فترة حكم نوري المالكي، العائد فقيراً من المنفى (في سوريا) ، والمستقوي بتنظيمه المذهبي العريق (حزب «الدعوة») الذي عاش أركانه حالة مطاردة بالقتل والاعتقال دفعت الكثير منهم نحو اللجوء إلى إيران أو إلى سوريا (في زمن الخصام مع صدام حسين).
ولكي يتم إسقاط حكومة نوري المالكي الذي يفترض أن تجمّعه الحزبي المركب قد فاز في الانتخابات النيابية، أعيدت صياغة المواقع فاختير واحداً من ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية الجديد، فؤاد معصوم، وهو كردي كسلفه «مام جلال»، أي جلال الطالباني، وجيء «برفيقه» في حزب «الدعوة» حيدر العبادي رئيساً للحكومة الجديدة.
واستمر تقدم «داعش» في الأرض العربية، بعد الموصل، فسيطرت قواته على تكريت وقد تطلَّب إخراجه منها الكثير من الدم والخراب وارتفاع منسوب الأحقاد المذهبية، خصوصاً وقد حرصت إيران على إظهار دورها المباشر في إيفاد الجنرال قاسم سليماني ليقود المعركة. ثم التفت قوات «داعش» على الرمادي التي انسحب منها الجيش بلا قتال تقريباً، لتتقدم ميليشيا الحشد الشعبي التي يُفترض أنها «مؤسسة رسمية»، وإن كانت كتلتها العظمى من الشيعة، معززة بإسناد الجيش ودعمه لاستعادة المحافظة الأسيرة. لكن النتائج كانت كارثية، فقد استفز شعار هذا الحشد «لبيك يا حسين» العشائر السنية، التي وجدت من يعزز اعتراضها في دول الجوار ليتعاظم خطر الفتنة، وهو أقصى ما يطمح إليه «داعش». فقد وجد من يعزز ادّعاءه بأن «الشيعة» خارجون على الدين، وهو من ينصر السنة المقهورين بالهيمنة الشيعية على القرار.
تدريجياً، بات لـ «داعش» حاضنة شعبية في أوساط «ضحايا الهيمنة الشيعية» من أهل السنة، الذين وجدوا حاضنة عربية ـ تركية ـ أممية (اذا ما استذكرنا التنظيم الدولي لـ «الإخوان المسلمين» فضلاً عن تفرعات «القاعدة»). وكان طبيعياً أن تلامس هذه الموجة أهل السنة في سوريا ولبنان، ثم أن تكتسب زخماً مع الحملة السعودية على «الحوثيين» في اليمن، وهم ـ في الأصل ـ عائلة من الأشراف لها مكانتها بين «الزيود» اليمنيين، وهم يحتسبون أنفسهم من «الشيعة» وإن كانوا الأقرب في ممارسة طقوسهم إلى السنة.
بسحر ساحر، أو بترسبات عصور ما قبل النهضة وتبلور فكرة العروبة، ومع الحصيلة المرة لممارسات الأنظمة التي رفعت الشعار القومي وعجزت بشكل فاضح عن مواجهة العدو الإسرائيلي وكذلك عن صد محاولات الهيمنة الأميركية على المنطقة، مقابل نجاح إيران ـ الخميني في احتلال مكانة «الدولة الإقليمية الكبرى» إلى جانب تركيا ـ «الإخوان المسلمين»، تمكن «داعش» من احتلال ثلث مساحة العراق بمدنها ونصف مساحة سوريا تقريباً، وصولاً إلى نجمة الصحراء، تدمر، بكل تراثها الحضاري العريق الذي يجمع إلى إبداعات السوريين القدامى بعض تجليات الفن عند الرومان الذين قاتلتهم ملكتها زنوبيا حتى آخر نفس.
صارت «داعش» مشروع دولة إقليمية كبرى، خصوصاً إذا ما استمرت التسهيلات التركية لزحفها في الشمال السوري نحو الساحل ليكون لها منفذ على البحر الأبيض المتوسط، ربما أرادته أن يكون في محيط اللاذقية ، فإذا ما تعذر ذلك اندفعت جحافلها ـ إذا لم تجد من يصدها ـ في اتجاه الساحل اللبناني (طرابلس)، أو في نقطة ما بينهما. ولعل هذا التوقع يفسر «الحرب» الدائرة في جبال القلمون وعموم السلسلة الشرقية التي تشكل الحدود اللبنانية ـ السورية، والتي تقع بلدة عرسال في بطنها، في حين لا تبعد عنها حمص بسهولها الممتدة حتى الساحل السوري أكثر من مئة كيلومتر.
«داعش» اليوم مشروع دولة، لها «جيش» تعززت قدراته بما استولى عليه من سلاح ثقيل من ثكنات الجيش العراقي (أساساً في الموصل ثم في تكريت والرمادي والفلوجة..)، وكذلك من بعض ثكنات الجيش السوري (في الشرق والشمال)، وبما استولى عليه من نفط تشتريه منه تركيا لتبيعه إلى إسرائيل. علماً بأن زحفه المظفر قد عبر الحدود التركية ـ العراقية والتركية ـ السورية، لم ينتبه إليه حرس الحدود في تركيا التي تجاهر بحربها على سوريا، وتحاول نسج «تحالف» مع أكراد العراق وتشجعهم على إعلان دولتهم في أربيل، بينما تنكر عليهم ـ حتى اليوم ـ حقوقهم السياسية فيها.
في هذه الأثناء تدور رحى حرب سياسية وإعلامية قاسية، وبكل أنواع الأسلحة، بين من يحتكر حق تمثيل السنة العرب، ممثلاً في السعودية ومن معها، وبين حركات الإسلام السياسي الشيعي المتهم بالولاء لإيران كما جماعة الحوثيين أو الزيود في اليمن، (أو الأنظمة المحسوبة عليها كالنظام القائم في العراق أو ذلك القائم في سوريا) وصولاً إلى «حماس» في غزة والى «حزب الله» في لبنان.
ولا يبقى من «مرجعية» إلا الإدارة الأميركية التي تتضمن، حكماً، إسرائيل.
السؤال الساذج الذي يدور في أذهان المواطنين العرب، هو:
لو كانت مصر في وضع صحي يؤهلها للعب دورها الذي لا بديل منه، هل كنا شهدنا هذا التردي الفكري والسياسي، وهذا الصراع العبثي الذي يدمر الأمة ولا يخرج منه طرف منتصر.. إلا إسرائيل، ومن دعم قيامها وما زال يدعم تفوقها على مجموع الأمة؟
وفي انتظار مصر ستظل الأمة تتهاوى وتتمزق وتضيع طريقها إلى مستقبلها.. بل وتفقد معنى وجودها!