طلال سلمان
تتهاوى «الدول» في الوطن العربي، بمشرقه ومغربه، وتتساقط «مؤسساتها» التي كان يختصرها «الفرد» الحاكم باسم «حزب» سرعان ما جرى تذويبه في قبيلة أو عشيرة أو حتى عائلة اتخذت لنفسها لقب «الجبهة» الوطنية أو القومية أو التقدمية، لكن التمويه سرعان ما تلاشى مع الصراعات أو المواجهات، لتبقى «الدولة» لصاحب الدولة بوصفه ولي الأمر فيها.
حتى «الدول» التي لمّا تسقط تماماً وإن كان «النظام» فيها قد التهم «مؤسساتها» الوليدة، تهتز هذه الأيام وقد تعلق مصيرها بصحة الرئيس القائد، أو بـ»الدول» ذات المصلحة في دوامها واستقرارها، لأسباب تتصل بالنفط والغاز أساساً، وبالتالي فمن الأفضل حفظ «الكيان» ولو بحكم ضعيف، تحاشياً لتفجر حرب أهلية قد تلحق الأذى بالمصالح، كما قد تمتد نيرانها إلى الجوار المتهالكة «دوله» والتي تتطلب التوازنات في الإقليم بقاءها حتى إشعار آخر.
فأما المشرق العربي فقد بات الحديث عنه يتجاوز وجود «دوله» للبحث في صيغ جديدة لكياناته التي قد لا يكون استمرارها على ما هي عليه مناسباً لصاحب أو أصحاب الحل والربط وخططهم لمستقبل المنطقة بحسب ثرواتها وليس بحسب مكوّناتها القديمة التي كان توحيدها ملفقاً أو مؤقتاً... وواضح أن مصالح الخارج تأخذ إلى اعتماد «تصغير» الكيانات القائمة (بما يزيد عدد الأصوات العربية في الأمم المتحدة وسائر المنتديات الدولية!!).
لم تعد الأحاديث أو التكهنات أو حتى التقارير الرسمية عن محاولة تقسيم سوريا إلى كيانات على قاعدة طائفية أو مذهبية قد تجمعها دولة فيدرالية سراً حربياً، بل بات مشروعاً يطرح ويناقش في «دوائر» محددة في عواصم القرار، جنباً إلى جنب مع مشروع آخر لتحويلها إلى كونفدرالية بمركز قوي مع لامركزية واسعة تحقق مصالح كل طائفة بحسب قوة من يدعمها أو صاحب المصلحة في الكيان الجديد... فإذا ما ظهرت صعوبات غير متوقعة فلتكن كونفدرالية طوائفية لكل طائفة كيانها بقرارها المستقل فيها، ولكن مصالح الجميع تتلاقى في إطار دولة تجمع هذه الكيانات لأسباب قد تتصل بالجغرافيا (داخل وساحل، زراعة وصناعة، نفط وغاز بحاجة إلى مصاف ومعابر آمنة إلى البحر) الخ..
كذلك فإن صورة العراق كدولة فيدرالية تكاد تتكامل على قاعدة طائفية في الغرب (السنّة) وعنصرية في الشمال (الأكراد) وفي الشرق والجنوب (الشيعة) مع اعتماد بغداد عاصمة فيدرالية للأطراف جميعاً، بضمانات دولية، قد تتخذ شكل المشاركة متعددة الطرف في مواجهة «داعش» من الجو أساساً مع مشاريع قواعد عسكرية مموهة أقله في الشمال والغرب، ومركز استخبارات معزز في بغداد يكون شريكاً في القرار السياسي عبر الدعم العسكري المفتوح، على قاعدة خطة طوارئ دائمة.
أما اليمن فالبحث جار عن «صيغة عملية» لحماية وجودها كدولة.. وقد تفرض هذه الصيغة إعلان اليمن دولة فيدرالية يتمتع كل «إقليم» فيها (الجنوب أساساً، ثم الغرب فالشمال والشرق) باستقلال ذاتي واسع، مع ضمانات للجارة الكبرى (السعودية) وكذلك لمصر (بقناة السويس فيها التي يشكل باب المندب مدخلها الإجباري من جهة الجزيرة والخليج والمحيط الهندي).
وإذا كان النفط وسائر المصالح الاستراتيجية للغرب تبعد النقاش عن مستقبل السعودية وإمارات الخليج في اللحظة الراهنة، فإن الضغط لتثبيت مجلس التعاون الخليجي قد يتطور في اتجاه دفع هذه الدول جميعاً نحو «كونفدرالية» من نوع خاص، بما يحفظ مصالح «دولها» جميعاً مع مركز ممتاز ـ بطبيعة الحال ـ للمملكة المذهبة.
ولعل الأزمة الأخيرة التي عصفت بهذا المجلس وهددت بانفراطه بسبب من «تمرد» قطر يؤكد أن وحدة القرار داخله ضرورية ولا نقاش فيها حتى لو ظلت دوله «مستقلة» تحت أمرائها وشيوخها وأعلامها متقاربة الألوان.
الجديد في الأمر أن أوضاع بعض الدول العربية في شمال أفريقيا وتحديداً ليبيا باتت موضع نقاش مفتوح في بعض دوائر القرار دولياً... وهذا يؤثر بطبيعة الحال على أوضاع الجزائر (التي يحكمها رجل قد يكون في النزع الأخير)، وكذلك على تونس، وقبل هذه وتلك مصر التي تعيش مرحلة انتقالية، يجهد الحكم الجديد فيها لإعادة بناء الدولة.
ويقول العارفون بشؤون الجزائر إن الجيش وهو مركز القرار فيها، ممثلاً بجنرالات المخابرات، يستعد لمرحلة ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ومع الشلل العام الذي تعيشه «جبهة التحرير»، وضعف التنظيمات السياسية الأخرى، وتواري أحزاب التيار الإسلامي (إخوان وسلفيين) فمن الواضح أن القرار سيعود إلى الأقوى في صياغة المستقبل السياسي لهذه الدولة المؤثرة وذات التاريخ الجهادي الناصع، أي الجيش بمخابراته ورجلها القوي.
ومن الممكن فهم الارتباك الذي تعيشه انتفاضة البوعزيزي في تونس، والذي عززته الانتخابات الرئاسية التي جرت جولتها الأولى قبل أيام، والتي سوف تُستكمل بعد أيام، عبر التنافس الديموقراطي الذي حسم بداية لمصلحة «العهد القديم ـ أي ذلك الذي يجمع بين بورقيبة وربيبه الذي خلعه زين العابدين بن علي» والمعلق الآن على نتائج الجولة الثانية التي قد تحمل مفاجآت غير متوقعة... فالفارق في أصوات المرشحين الأساسيين قد تحمل مفاجأة، على ما يقول مناصرو تيار «الإخوان المسلمين». فإذا ما حدث ذلك فلسوف يكون انقلاباً خطيراً في نتائجه على دول الجوار (الجزائر أساساً، وليبيا حيث يخوض الإسلاميون المعركة معززين بدعم بعض دول الخليج، ثم مصر التي لمّا تتخلص تماماً من شبح الإخوان المسلمين الذين ما زالوا يقاومون مستندين إلى دعم تركي مفتوح ودعم خليجي تجري الآن محاولة لتجفيفه..).
لا بد هنا من الإشارة إلى أن التيار الإسلامي في المغرب، وإن هو تمايز عن «إخوان» المشرق، يمسك بالسلطة الآن عبر الحكومة وتحت رعاية أمير المؤمنين.
هذا كله يفتح باب الاحتمالات على مصراعيه في دول شمال افريقيا العربية.. لا سيما إذا ما استذكرنا أن بعض التنظيمات الإسلامية في هذه الأقطار قد أعلنت مبايعتها لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش»، وكذلك فعلت المجموعات الإرهابية التي تخوض حرباً شرسة ضد مصر.. بما يوحي بأن بحر الدماء المهدورة في هذه المساحة الشاسعة من الأرض سيتمدد مستولداً نتائج سياسية يصعب تقديرها، مع غياب القوى السياسية المؤهلة ببرامجها وشعبيتها للنزول إلى الميدان ومواجهة ومن ثم الانتصار سياسياً (وبمعزل عن العسكر) على «داعش» ومن معه... ومن هنا تكتسب معركة الإعادة في الانتخابات الرئاسية في تونس أهمية استثنائية: فالمهم أن يُهزم مرشح الإسلاميين ولو بفوز المرشح المتحدر من صلب البورقيبية.
الخلاصة: إن «الوطن العربي» في صورته «القديمة» يتفسخ أكثر فأكثر، فالصراع بين العروبة، ممثلة في الهوية الوطنية لكل بلد، والقوى حاملة الشعار الإسلامي بمعزل عن تطرفها أو اعتدالها، يهدد «الدولة» في كل من هذه الأقطار ويفتح الباب أمام «مشاريع انفصالية» على قواعد متعددة، بينها العرق (عرب وبربر وشاوية، بدو وحضر) قبل أن نصل إلى مواقع النفط والغاز جغرافياً، وعلى خريطة الصراع الدولي الذي قد يغري بعض الأقليات المتحكمة بمواقع الثروة على الانفصال، أو ـ أقله ـ على المطالبة بإعادة النظر في الكيان السياسي في اتجاه اعتماد الفدرالية أو الكونفدرالية الخ..
إن «الدولة المركزية» مهددة الآن في العديد من الأقطار العربية..
هل علينا أن نستذكر أن الكثير من «الدول» قد أقيمت بقرار من الخارج وتأميناً لمصالحه (سايكس ـ بيكو في لبنان وسوريا والأردن والعراق) أو بقرار بالقوة (مثل توحيد اليمن، أقله كما يرى أهل جنوبه)... وأن دولاً أخرى كانت اتحادية (مثل ليبيا الملكية بولاياتها الثلاث)، وثمة من يحن إلى الماضي في ضوء حاضر الحرب الأهلية التي تغطي أرض هذه البلاد الغنية بالدماء؟
وهل علينا أن نستذكر أن الصراع الراهن بالشعار الإسلامي يحمل في طياته خطر تفسيخ الكيانات السياسية القائمة، مزكّياً من جديد «استقلال» كل طائفة عن الأخرى، كما يلوح في أفق العراق الآن، وفي سوريا، ويمكن إضافة اليمن مع عدم استبعاد انتقال العدوى إلى فدرالية الطوائف القائمة الآن في لبنان.
إذا ما استذكرنا هذه المخاطر التي تلوح في الأفق، مغطاة بالشعار الإسلامي، أو بحقوق الأقليات (طوائف وأعراق)، لانتبهنا إلى أن «عالمنا القديم» يعيش حالة قلق مصيري، قد تستولد المزيد من الحروب الأهلية.
... وتبقى مصر هي الضمانة، إذا هي استكملت إعادة بناء دولتها العميقة، وتيسر لها أن تعود إلى دورها الذي لا بديل منها فيه بوصفها الدولة المركزية لهذه المنطقة جميعاً، بأكثرياتها وأقلياتها، بالمذاهب والطوائف والأعراق.
وفي انتظار مصر سنعيش مرحلة من القلق المصيري على غدنا في أرضنا، بينما العدو الإسرائيلي يعلن ما استولى عليه من فلسطين «دولة يهود العالم»، ملغياً شعبها الذي كان عنواناً لنضال الأمة.