سعود الفيصل

سعود الفيصل

سعود الفيصل

 تونس اليوم -

سعود الفيصل

غسان شربل

للكبار أسلوب في المغادرة. إنه أسلوب الكبار. يذهبون كما تتوارى خزنة أسرار في بحر. كما يتعب بعض التاريخ الحيّ فيهاجر إلى التاريخ. والحقيقة هي أنهم لا يذهبون. ينامون في ذاكرة التراب. ينغرزون في ذاكرة الوطن. ينزرعون في ذاكرة الأمة. ويقيمون في ذاكرة الكتب.

لا ينتظر الكبار حُكم التاريخ. يحاكمهم في عزّ معاركهم. يدقِّق في مواقفهم. ويتحرّى آثار لمساتهم. لا تحتاج محكمة التاريخ إلى مسافة الزمن. لا تحتاج إلى شهود. بعض الرجال تسعى إليه الأوسمة، لتعتزّ بصدره وسيرته. لتؤكّد قدرتها على الإنصاف. لفظت المحكمة حكمها القاطع: هذا أمير الديبلوماسية النبيل. فارس بأسلحة كثيرة.

سعود الفيصل. القصة ليست قصة رجل فقط. إنها قصة رجل وحقبة.

بعد مرور في وزارة النفط عُيِّن الشاب الوافد من كلية الاقتصاد في جامعة برنستون وزيراً للخارجية. كان ذلك في 1975. وخلال أربعة عقود في هذا المنصب تغيَّر العالم كثيراً. اندلعت حروب. وتمادت نزاعات. وتساقطت أنظمة. واهتزت خرائط. وهبّت عواصف، ولم تغب الزلازل. لم يكن من دعاة مراقبة العالم بالمنظار من مكتبه. كان يذهب إلى العواصم حاملاً رؤية السعودية. يذهب حاملاً سياسة تغليب التعاون على القطيعة، وتغليب لغة الجسور على لغة الجدران.

خلال أربعين عاماً من ممارسته مهمّته، تغيَّر كثيرون وتغيَّرت أشياء كثيرة. تغيَّر مرّات اسم سيد البيت الأبيض. وقيصر الكرملين. وساكن الإليزيه. وصاحب القرار في 10 داوننغ ستريت. وتغيَّر كثيرون في العالم العربي والإسلامي الذي تقلّب على نار عدم الاستقرار، قبل أن تعصف به رياح التطرف والإرهاب.

مهمة صعبة في منطقة صعبة. تحرك جمر الثورة في إيران. وغرق الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. اندلعت الحرب العراقية- الإيرانية. تقاتل اللبنانيون والفلسطينيون في شوارع بيروت فوضعت سورية يدها على شقيقها القاصر. غزت إسرائيل لبنان ودفعت ياسر عرفات ورجاله إلى تيهٍ جديد. وستكون التسعينات رهيبة. غزو العراق الكويت، وانتحار الاتحاد السوفياتي، والطلاق الدموي في يوغوسلافيا. وفي العقد التالي اقتلاع نظام صدام حسين واغتيال رفيق الحريري وانسحاب سورية من لبنان. ثم جاء العقد الأخطر حاملاً «الربيع العربي» بثوراته وانقلاباته وتقلباته وانهياراته.

في عالم متغيِّر دائماً ومتصدِّع أحياناً، كان على السعودية أن تدافع عن أمنها واستقرارها وأن تواصل الاضطلاع بمسؤولياتها العربية والإسلامية. وفي عالم متبدِّل الوجوه والخيارات تحتاج العلاقات بين الدول إلى صيانة دائمة على قاعدة المصالح المتبادلة. يكفي أن نتذكّر هنا أن الأمير سعود الفيصل تحادث مع 13 شخصاً تناوبوا على منصب وزير الخارجية الأميركي. ولم تكن المهمة سهلة بسبب اختلاف الثقافات والمجتمعات وتباعد القراءات أحياناً. هذا من دون أن ننسى أن العلاقات العربية كانت شائكة أيضاً، خصوصاً بسبب المجازفات والمجازفين.

كان الحاضر الدائم والمسافر شبه الدّائم. وفي اللقاءات العربية والإسلامية كانت الأنظار تتجه إليه. والأمر نفسه حين يقف على منبر الأمم المتحدة. وفي الإطلالات العامة كما في الغُرَف المغلقة كان لحضوره وَقْعٌ ولكلماته صدى.

سألتُ عنه البارحة بعض من التقوه بحكم مواقعهم. تشابهت الإجابات تقريباً. «أدخَلَ إلى الديبلوماسية مسحة من النبل». «بارع في الحديث وبارع في الإصغاء». «واسع الإلمام ولا ينسى التفاصيل». «مرن في الحلول متشدِّد في الثّوابت». «يُشبه الفولاذ مظهره ناعم لكنه صلب الجوهر». «تستطيع أن تختلف معه لكنك لا تستطيع إلا أن تحترمه».

تحفظُ ذاكرة الديبلوماسية أسماء ثلاثةٍ أقاموا طويلاً في وزارة الخارجية. الأول أندريه غروميكو (1957 إلى 1985). الثاني الشيخ صباح الأحمد (1963 إلى 1991). والثالث سعود الفيصل (1975 إلى 2015). سألتُ مسؤولاً سابقاً فاوَضَ الثلاثة فأجاب: «الأول من مدرسة مختلفة خدمها بإصرار وثبات. والثاني بارعٌ وحكيم ساهم في إخراج بلاده من العاصفة. والثالث وظَّفَ ثقل بلاده ومواهبه الشخصية لتحويلها رقماً صعباً في المعادلة العربية والإقليمية».

وقال:» سنوات سعود الفيصل الأخيرة كانت سنوات الآلام. آلام الجسد وعذابات العربي الحقيقي والمسلم الحقيقي أمام عذابات الشعبين العراقي والسوري وانحسار الدور العربي في البلدين. إنه علامة فارقة في تاريخ الديبلوماسية العربية. فارس نبيل وأسلحته كثيرة. لم يغادر يوماً قاموسه الراقي إلى قاموس الغضب».

للكبار أسلوبهم في الحضور والمغادرة معاً. لهذا يحضُرُ التاريخ في تشييعهم ليكون الأول في استقبالهم.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سعود الفيصل سعود الفيصل



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:21 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجدي الخميس 29-10-2020

GMT 14:05 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الأسد الخميس 29-10-2020

GMT 08:29 2021 الجمعة ,07 أيار / مايو

مسلسل ''حرقة'' أفضل دراما رمضانية في تونس

GMT 05:48 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

اكتشاف تقنية جديدة تساعد في إنقاص الوزن الزائد

GMT 05:31 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

البردقوش فوائده واستخدامه

GMT 00:15 2016 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد الشطة لعلاج مرض الصدفية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia