غسان شربل
تبدد باريس آخر أيام السنة. تمسح جروحها وتخلع فستانها المبلل بالدم. لبعض الأماكن سطوة لا تقاوم. تستدعيك من دون أن تناديك. تدخلها معتذراً كمن تأخر عن موعده. ترتبك كأن كل غياب خيانة.
ترتدي المدن في البال صورة لا تتغير. وباريس قصة أخرى. ما أكثر الخواتم في أصابعها. ما أكثر الأساور في اليدين. تذكرك الشوارع بأسماء من أفنوا أعمارهم لجعل العالم أقل وحشة ووحشية. فولتير وستندال وبلزاك وهوغو وشاتوبريان. بودلير ورامبو وأراغون. روايات ومسرحيات وقصائد ومذكرات. وعطور ومناديل ومواعيد.
مدينة مشرعة وقابلة للطعنات. لكنها عصية على الموت السريع. سلحتها الأيام والتجارب بصمامات أمان ومظلات. مؤسسات تستوعب وتحاسب. إن أخطأ الرئيس يذهب الرئيس. وإن أخطأ الحزب يذهب. الفرنسي يقرر اسم الحاكم ولون أفكاره. الدستور ليس نادلاً ذليلاً لدى سيد الإليزيه. ولقيم الجمهورية حصانة لا تسمح للمغامرين بافتراسها. رسوخ المؤسسات وحكم القانون.
طلّقت منذ زمن طويل لعبة الأصنام والبخور والهالات المحظور الاقتراب منها. تحاكم الحاكم حياً وتحاكمه ميتاً. لا تمل من تشريح جثة نابوليون ودماغه وأزقة قلبه. تستدعي شارل ديغول من تراب «كولومبي لي دو زيغليز» وتعيد امتحان قامته وسلوكه عند المنعطفات. تستدعي أيضاً فرنسوا ميتران، آخر الكبار، وتسأله ويجيب. لا التاريخ يستعبدها. ولا الرواية الوحيدة. ولا الزعيم الأوحد. ينشر كاتب غسيل الحكم والحاكم من دون أن يتحسس أصابعه وأسنانه وأولاده.
تكشف المكتبة هموم المدينة والبلاد. تسأل فرنسا نفسها عن موقعها في عالم يتغير. تسأل عن الاقتصاد والمناخ. وتسأل عن الإرهاب. وتسأل أيضاً عن نفسها وهويتها وقدرتها على منع تمزق نسيجها بفعل جاذبية التطرف والتطرف المضاد. رجلان يستوقفان كتابها حالياً. اسم الأول فلاديمير بوتين الذي يتلاعب باستقرار أوروبا ويقود انقلاباً صارماً في الشرق الأوسط. اسم الثاني ابو بكر البغدادي الذي صبغ سنتها الحالية بالخوف والدم وحوّل فرنسوا هولاند جنرالاً رغماً عنه.
لم يعد الشرق الأوسط يحضر في المكتبات عبر الظلم التاريخي اللاحق بالفلسطينيين. تراجعت القضية المركزية هنا بعدما تراجعت هناك. صار الشرق الأوسط نبع الإرهاب والتطرف ورفض الآخر. تكاثرت الكتب عن «داعش» و «دولته» ومنابعه وثروته وأخطاره. وفي وسائل الإعلام الفرنسية نقاش واسع مفتوح حول أفضل السبل لتحصين الجاليات الإسلامية ضد جاذبية «داعش» ومنع تحول الأحياء المهمشة أحزمة ناسفة في قلب باريس. ويحدث أن يحتدم النقاش ويسأل أحد المشاركين بتوتر ظاهر: لماذا يكره البغدادي باريس؟
في طريق العودة الى الفندق كشفت لهجة السائق أنه من أصول مغاربية. سألته رأيه في هجمات باريس فأجاب: «إنها جريمة فالإسلام يمنع قتل الأبرياء». سالته إن كانت لديه مشكلة في العيش في ظل نظام علماني فرد: «لا، شرط أن يكون علمانياً بالفعل ويقف على مسافة واحدة من الجميع. على فرنسا أن تتغير. المسلمون اليوم مكون رئيسي فيها وهذا يجب أن يكون حاضراً وفي صورة عادلة في هويتها وثقافتها. لم نصل الى هذه المرحلة بعد. سأعطيك مثالاً. يمنع الحجاب في فرنسا لكن يسمح بالمِزوَد وشجرة الميلاد. لماذا تخاف فرنسا من الحجاب ولا تخاف بريطانيا منه؟ الحقيقة أن هناك عملية تضخيم مقصودة لتخويف الفرنسيين من الإسلام والمسلمين. أنا لا أنكر وجود دعاة متطرفين لكن الأكثرية تريد العيش بسلام».
قال السائق إنه ولد في فرنسا قبل اثنين وثلاثين عاماً. وتعلم في مدارسها. سألته لماذا لا يرجع الى بلاد ابيه فأجاب: «لا فرص عمل هناك. ثم إذا اعتقلت هنا يحميك القانون. إذا اعتقلت هناك يمكن أن تتبخر وأعرف حالات عدة». قلت أمازحه: «مع من تقف إذا تواجه فريق فرنسا لكرة القدم مع فريق من بلدك الأصلي؟». رد مبتسماً «لماذا لا تطرح عليّ إلا الأسئلة الصعبة؟».
تبدد باريس آخر أيام السنة. تمسح جروحها وتحاول إزالة بصمات البغدادي. الأمر يتخطى مسرح الجريمة. فرنسا خائفة من أن تصبح بلاد قاموسين وهويتين. قبل شهور ذهبت للقاء اللاجئين السوريين في برلين فشممت رائحة المخاوف نفسها.