لم يكن الشرق الأوسط سابقاً بحيرة سلام. كانت الحروب العدوانية الإسرائيلية تُسمم أيامه. وكانت تُسممها أيضاً ممارسات المستبدين. لكنهم كانوا في معظم الأحيان يمارسون انتهاكاتهم داخل الخرائط. وحتى حين كانوا ينزلقون إلى مغامرات خارجها كانت ركائز الاستقرار تسمح بامتصاص تهوراتهم والحيلولة دون حدوث الانهيار الكبير.
كان هناك الحد الأدنى من ركائز الاستقرار. وكان عدد الحكماء يزيد على عدد المراهقين. وعثر العرب أحياناً على صيغ لامتصاص الهزات. بينها المثلث السعودي - المصري - السوري. وعلى رغم التمايزات والتباينات كانت هناك رغبة عميقة في تفادي سياسة الطلاق ونسف الجسور.
كان الدور السعودي أحد صمامات الأمان. وهو ينطلق من الثقل الذي تمثله السعودية عربياً وإسلامياً. ثقل سياسي واقتصادي وديني أيضاً. وكانت العلاقات السعودية - الأميركية تزيد من ثقل هذا الدور الضمانة الذي وظف في خدمة مطالب الفلسطينيين وفي جهود المصالحة السعودية في أكثر من دولة وأكثر من أزمة.
لا غرابة إذاً، أن يكون الدور السعودي مستهدفاً من جانب كل من يحاول فرض انقلاب في الإقليم أو انتزاع زعامته. ولا غرابة أيضاً أن يستهدف من يحاول إحداث تغيير في موازين القوى في العلاقة السعودية - الأميركية التي كانت تشكل سداً في وجه مشاريع الانقلابات الكبرى.
الشرق الأوسط الذي ولد من رحم «الربيع العربي» مختلف وشديد الخطورة. إننا أمام عراق مفكك إتنياً ومذهبياً يخوض حرباً مع «داعش» بالتلازم مع حضور غير طبيعي للوصاية الإيرانية في بغداد. إننا أمام سورية مفككة إتنياً ومذهبياً مع حضور مخيف لـ «داعش» على أرضها وحضور غير طبيعي للوصاية الإيرانية في دمشق. إننا أمام يمن ارتكب فيه عبدالملك الحوثي مغامرة مدمرة، خصوصاً حين التقت مصالح ميليشياته مع الخيار الثأري للرئيس السابق علي عبدالله صالح. إننا أمام ليبيا مستباحة من جانب ميليشياتها والوافدين وتشكل مصدر إشعاعات مضرة لنفسها وجيرانها.
هذا هو الشرق الأوسط الحالي. شاخت خرائط وأنظمة. وتحصن الإرهاب في أماكن حساسة فيه. وتحولت بعض ميليشياته «جيوشاً صغيرة» تلعب أدوار القوى الإقليمية حين تعبر الحدود لإسقاط نظام أو منع سقوطه. سقطت حصانة الحدود الدولية. والتعايش مريض. والأدوية المستخدمة في علاج المرضى بالإرهاب تزيد التهابات «البيئة الحاضنة».
أين هي حدود الفرس في الإقليم؟ وأين حدود العرب؟ وأين حدود الأتراك؟ وماذا عن الأكراد؟ ما هو موقع السنّة؟ وماذا عن الشيعة؟ وما هو مصير الأقليات؟ وهل مصير الحدود مطروح فعلاً أم إن الجراحات ستُجرى داخل الخرائط؟ وهل تمكن إعادة توحيد العراق إذا كان الدور الإيراني طاغياً فيه؟ والأمر نفسه بالنسبة إلى سورية؟ وماذا عن قنبلة الدور الإيراني وهي أهم بالنسبة إلى العرب من القنبلة النووية والاتفاق الذي أبرم لتأخير ولادتها؟ ومن سيدفع فاتورة إعادة الإعمار وهي باهظة أصلاً؟ وماذا عن أميركا التي رفضت الجلوس في موقع القيادة في الإقليم؟ وماذا عن السياسة الهجومية التي تنتهجها روسيا؟
إنها أسئلة ملحّة وخطرة. كأننا في الطريق إلى إعادة تأسيس الشرق الأوسط ورسم ملامحه. المسألة أبعد من مصير «داعش» الذي لا يمكن أن يقيم طويلاً مهما بدا قوياً ومتحركاً. المسألة هي أن الشرق الأوسط الحالي تحول إلى مصدر لكل أنواع الأخطار. الإرهاب ومحاولات الهيمنة والتفكك والفقر والفشل الاقتصادي والعجز عن اللحاق بالعصر.
في ظل هذه الصورة الفعلية للشرق الأوسط جاءت القمة السعودية - الأميركية. لهذا، اعتبر الملك سلمان بن عبدالعزيز كلمة الاستقرار هي الكلمة المفتاح. وللسبب نفسه تحدث عن تعميق شراكة المصالح مع أميركا. لا بد من نقطة ارتكاز أساسية لمعاودة البحث عن الاستقرار عبر حلول سياسية عادلة وواقعية للأزمات الدموية التي تعصف بعدد من بلدان المنطقة. في السياق نفسه يمكن فهم موقف السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي من الأحداث التي شهدتها مصر.
انعقاد القمة في أيلول (سبتمبر) يدفع إلى تذكر هجمات «11 سبتمبر» الشهيرة. إنها مجرد نموذج لما يمكن أن يكون عليه الشرق الأوسط إذا لم تتقدم محاولات البحث عن إعادة الاستقرار. الشرق الأوسط الحالي مليء بالأخطار. خطر تدمير ما بقي من مؤسسات الدول. وخطر المذابح واقتلاع مجموعات بكاملها. وخطر «المجاهدين» العائدين من الشرق الأوسط. وخطر»الذئاب المنفردة». وخطر تسلل الفكر المتطرف إلى الجاليات. وخطر أن تنوء أوروبا تحت أمواج اللاجئين.
إن معركة استعادة الاستقرار وإغلاق منابع الأخطار معركة طويلة ومريرة. تستدعي الصلابة والمرونة. واستنهاض قوى الاعتدال. وتوظيف العلاقات الدولية. وتستدعي مواجهة شاملة لمشاريع الهيمنة والأفكار الظلامية. إننا في البدايات.