غسان شربل
أميركا لن تكون شرطي العالم. لن تضحي بأبنائها لاقتلاع مستبد. لن ترسل جيشها لزرع الديموقراطية قسراً في هذه الدولة أو تلك. لن تتحمل وحدها عبء إدارة العالم ومعالجة مشكلاته. الاعتماد على القوة العسكرية وحدها «ساذج وغير مستديم».
هذا ما يمكن استخلاصه من الخطاب الأخير لباراك أوباما. انتهت المرحلة التي أطلقها جورج بوش رداً على «غزوتي نيويورك وواشنطن». استخدام الآلة العسكرية الأكثر تطوراً في التاريخ لم يعد بالنتائج المرجوة. لم يسفر عن قيام عالم أقل خطورة.
دفعت أميركا باهظاً ثمن غرور القوة. تستطيع القوة الأميركية تدمير أي نظام معاد لكنها لا تستطيع بناء نظام صديق على أنقاضه. أوقعت حروب جورج بوش بلاده في استنزاف قلص قدراتها وهيبتها. لا يكفي أن يكون الجيش قوياً وقادراً على سحق خصومه. لا بد له من الاستناد إلى منطق مقنع يبرر تحركاته. وإلى اقتصاد قوي يشكل ضمانة للمجتمع والدولة والجيش.
كلام أوباما يوحي أن أميركا تريد التقاط أنفاسها. وإعادة تحديد مصالحها بشكل أوضح. وإعادة تحديد دورها وحدوده. لا تريد أن تكون اللاعب الوحيد في العالم. دور اللاعب الوحيد يرتب أثقالاً منهكة. تريد بالتأكيد أن تكون اللاعب الأول. وأن تبحث عن شركاء في هذه المنطقة أو تلك. تريد قيادة ائتلافات وتحالفات. إشراك آخرين في المسؤولية والأعباء.
لنترك جانباً أوهام الانتصار على أميركا خصوصاً حين تراود دولاً تئن تحت ركامها. يعتقد صوماليون أنهم مرغوا أنف أميركا في التراب لكن أين الصومال الآن؟ وتعتقد المقاومة العراقية أنها أذلت الإمبراطورية الأميركية لكن أين العراق الآن؟ يعتقد أهالي الفلوجة أنهم أثخنوا الجيش الأميركي لكن أين الفلوجة الآن؟ يسخر مؤيدون للنظام السوري من الخط الأحمر الذي تحدث عنه أوباما لكن أين سورية الآن؟ يرقص الرئيس عمر حسن البشير ساخراً من أميركا والمحكمة الجنائية الدولية لكن أين السودان الآن؟ يجدر بكثيرين تذكر أن فيتنام مرغت رأس أميركا في الوحل وتبذل الآن جهدها لاجتذاب المستثمرين والسياح الأميركيين.
أميركا قوة عظمى هائلة الإمكانات والأخطاء. من أبرز نقاط قوتها قدرتها على التوقف والمراجعة. ما تحدث عنه أوباما في خطابه الأخير قد يتحول نهجاً يستمر سنوات وبغض النظر عن اسم الرئيس. إنه قراءة للوضع الدولي ومشكلاته وموازين القوى وموقع أميركا في هذا العالم والصيغة الأفضل لدور يخدم مصالحها ويضمن موقعها.
في سياق هذا الفهم لدور أميركا الجديد يتعامل أوباما مع الملف السوري. لم يرسل الجيش لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد حتى حين اعتبر كثيرون أن الأسباب متوافرة والفرصة متاحة بعد اتهام النظام باستخدام السلاح الكيماوي. لن يزج القوات الأميركية «في حرب أهلية تزداد مذهبية». لكن ذلك لا يعني أن أميركا غسلت يديها من الوضع القائم في سورية.
في هذا الإطار يمكن قراءة ما أعلن عنه أوباما من مساعدات لدول الجوار السوري لتمكينها من تحمل أعباء مشكلة اللاجئين ومواجهة الإرهاب العابر للحدود. وكذلك حديثه عن دعم المعارضة المعتدلة بالتدريب والسلاح لتوفير بديل ينقذ سورية «من الإرهابيين والنظام الديكتاتوري».
ما شهدته بعض الاجتماعات المعلنة وغير المعلنة المتعلقة بالملف السوري يوحي بأن إدارة أوباما اعتمدت خيار الاستنزاف في سورية لقناعتها بعدم وجود حل عسكري «يمكن أن ينهي المعاناة الرهيبة في وقت قريب». الحديث عن دعم عسكري مدروس ومتدرج ومضبوط للمعارضة المعتدلة لإحداث تعديل في ميزان القوى في غضون عامين يرغم النظام على قبول حل سلمي يرسم ملامح سياسة الاستنزاف هذه. إنه استنزاف لإيران التي ألقت بكامل ثقلها لإنقاذ النظام في سورية وتدفع فاتورة استمراره. واستنزاف لروسيا وفق تصور يستخلص دروس الحرب الباردة والوضع الدولي الجديد الذي كشفته الأزمة الأوكرانية. والاستنزاف يعني التدريب والتسليح والدعم السياسي والمالي وترتيب ائتلاف يساهم في عملية الاستنزاف الطويلة.
في بداية الأحداث الدامية في سورية اتخذت طهران وموسكو قراراً يقضي بمنع المعارضة السورية من الانتصار. يبدو أننا عشية قرار مقابل اليوم. توحي اجتماعات عقدت حديثاً أن أميركا اتخذت قراراً بمنع النظام السوري من الانتصار. لهذا تبدو سورية مرشحة لاستنزاف طويل كما كانت فيتنام ذات يوم وأفغانستان في يوم آخر.