غسان شربل
أقلقت النكهة الإسلامية لـ «الربيع العربي» خبراء روسيا وجنرالاتها. تخوّفوا من موجة عاتية معدية. من تسلُّل جاذبية «الربيع» إلى المسلمين من أبناء الاتحاد الروسي، وعددهم يزيد على عشرين مليوناً. التفتوا أيضاً إلى هشاشة الأوضاع في دول الحزام الإسلامي على أطراف الاتحاد. لم ينسَ هؤلاء أن المشاعر الدينية أدمت «الجيش الأحمر» السوفياتي في أفغانستان وأرغمته على المغادرة. عكفت مجموعة من الخبراء برئاسة فيتالي نعومكين على درس الغليان الضارب في الشرق الأوسط، وتأثيراته في مصالح روسيا وخياراتها. وفي أواخر العام 2012 رفعت المجموعة تقريرها إلى الكرملين.
اعتبر الخبراء أن من مصلحة روسيا تعزيز تحالفها مع إيران والعراق، ولفتوا إلى أن أي خسارة لمحور طهران - بغداد تُلحِق الضرر بالمصالح الروسية. رأى الخبراء أيضاً أن روسيا ستكون مستفيدة من أي تطور يدفع الدول الخليجية إلى الانشغال بأوضاعها الداخلية، خصوصاً أن هذه المنطقة منافس جدّي لروسيا في أسواق الطاقة.
يمكن أن نضيف إلى التقرير زلة لسان ارتكبها سيرغي لافروف وعبرت عن مشاعره، حين قال أنه لا يمكن القبول بوصول «المجموعات السنّية» إلى السلطة في سورية لأنها تشكّل خطراً على مستقبل ذلك البلد. ويخشى الخبراء الآن من أن يؤدي أي انسحاب أميركي كامل من أفغانستان إلى تسهيل تمركز «داعش» في هذا البلد. يخشون أن توقظ جاذبية «داعش» الخلايا النائمة أو المعلنة في أوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان.
هل تشكّل الرغبة في ضرب «داعش» القاسم المشترك بين موسكو وطهران، أم إن الطرفين يلتقيان أيضاً على ضرورة إضعاف ما يعتبرونه الدور السنّي في الإقليم، خصوصاً دور مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية؟ وهل يعتبران إضعاف اللاعب السنّي في المنطقة جزءاً من عملية إضعاف الدور الأميركي؟
الشائع أن الدور السنّي في المنطقة يتمثل تقليدياً في ثلاثة أدوار تلتقي وتتمايز وتفترق، وهي الدور السعودي والدور المصري والدور التركي. ويلاحظ هؤلاء أن الدول الثلاث مستهدفة الآن أو منشغلة بنزاعات عند حدودها أو داخلها. أرغمت مغامرة الحوثيين وعلي عبدالله صالح السعودية على الانخراط في حرب في اليمن. يقاتل الجيش المصري حالياً في سيناء وعينه على الرياح الوافدة من ليبيا. يقاتل الجيش التركي الآن داخل أراضيه وأحياناً خارجها.
واضح أن إيران نفّذت في العقد الماضي انقلاباً صريحاً على الدور السنّي في المنطقة. عززت قبضة التحالف الشيعي في بغداد. منعت من سماهم لافروف «المجموعات السنّية» من الانتصار في سورية. اجتذبت الحوثيين في اليمن إلى سياستها، ودعمت ممارسات متشدّدة في البحرين، وقلّصت حدود الدور السنّي في لبنان. تستخدم إيران عناوين أخرى لتسمية سياستها، لكن المحصّلة هي سعيها إلى تقليص الدور المنافس لها في الإقليم.
يتفق العارفون بتركيبة المنطقة في القول أن الدور الحاسم في إلحاق الهزيمة بـ «داعش» لا يمكن أن يلعبه إلا أبناء المناطق السنّية التي انتزع التنظيم السيطرة عليها، وتعاني اليوم وطأة ممارساته. يتردّد التحالف المسيطر في بغداد في إعطاء السنّة هذا الدور لأنه يعزّز مطالبتهم بالعودة إلى شراكة فعلية في إدارة العراق. السنّة في سورية هم الأقدر على محاربة «داعش»، لكن قيامهم بهذا الدور يعزّز حقهم في المطالبة بشراكة كاملة في السلطة. إيران وروسيا تطالبان بأن يكون الدور الأول للقوات الموالية للرئيس بشار الأسد. الإصرار على مواجهة «داعش» بقوات لا تنتمي إلى البيئة التي ظهر فيها، قد يصبّ في النهاية في مصلحة التنظيم. استغلال ظهور «داعش» ووحشية ممارساته للانقلاب على الدور السنّي في المنطقة يُنذر بنزاع طويل مدمر.
أخطر ما يمكن أن يحدث في سورية هو أن يترسّخ الانطباع بأن الغرض من التدخُّل الروسي هو ملاقاة البرنامج الإيراني لكبح الدور السنّي في المنطقة تحت لافتة محاربة «داعش»، وبحجة التصدّي لـ «البيئة الحاضنة» أو المُنجبة وحماية الأقليات. ظهور قناعة من هذا النوع سيجعل التدخُّل الروسي مقدّمة لما هو أدهى. سيفتح الباب لولادة أفغانستان جديدة على الأرض السورية. وسيجد نزاع من هذا النوع صداه على أطراف الاتحاد الروسي، وربما داخله.
أغلب الظن أن فلاديمير بوتين لا يريد تكرار خطأ ليونيد بريجنيف. لا يريد أفغانستان جديدة ولا فيتنام روسية على الأرض العربية. لكن قطع الطريق على احتمالات من هذا النوع يُلزم روسيا بالإسراع في توظيف تدخُّلها العسكري في بلورة حلٍّ في سورية، بعيداً من مشروع الانقلاب على الدور السنّي.