إقليم الرأس المقطوع

إقليم الرأس المقطوع

إقليم الرأس المقطوع

 تونس اليوم -

إقليم الرأس المقطوع

غسان شربل

لست رقيق القلب. أنا ابن شرعي لهذا الشرق الأوسط الرهيب. ومهنتي شيقة وشائكة. أخذتني إلى معظم عواصم المنطقة. كانت مهمتي إجراء الحوارات مع أصحاب القرار مهما حُكي عن قسوتهم. ومحاولة اللقاء بمعارضيهم إذا سُمح لهم بالبقاء أحياء في بلدانهم. وكانت هوايتي جمع الروايات التي تقال همساً عن فظاعات أجهزة الأمن وبارونات الفساد الذين يرفعون الشعارات اللامعة ليستكملوا في ظلها نهب مناجم الوطن.
وشاءت المهنة أن تربطني أحياناً خيوط من الود مع قساة يبررون أفعالهم بمصلحة القضية العليا. قساة خطفوا طائرات. وزرعوا عبوات. واحتجزوا رهائن. وسرقوا باسبورات وزوروا أخرى. وعاشوا بأسماء مستعارة. وأمروا بإرسال سيارات مفخخة أو انتحاريين. أو بقصف عشوائي على مناطق سكنية.
هذه منطقة القساة أصلاً. قبل سنوات قابلت الضابط العراقي الصاخب عبد الغني الراوي. سألته عن بعض مراحل التاريخ العراقي الحديث المضطرب. فجأة وقف الضابط الثمانيني في غرفة الفندق وأعاد «تمثيل الجريمة» من دون أن يرف له جفن. قال إنهم جاؤوا بعبد الكريم قاسم ورفيقيه إلى مبنى الإذاعة وظهر ما يشبه الإجماع على إعدامهم. «قلت لهم تشهّدوا لكن عبد الكريم امتنع فقلت للجنود أطلقوا النار. وبث التلفزيون لاحقاً صور جثثهم لإضعاف معنويات أنصارهم».
قبل سنوات أيضاً ذهبت إلى عاصمة أفريقية. استقبلني الرجل بعد جهود دامت شهوراً. كنا نتحدث عن دوره ثم تطرقنا إلى الوضع في بلد عربي شائك. قلت ببراءة إن رئيساً قتل في تلك الفترة وفوجئت به يقول: «نعم أنا قتلته». وكان علي أن أخفي أنني فوجئت. سألته كيف قتله فروى كيف أعد العبوة التي ذهبت بالرئيس وغيرت اتجاه الرياح في ذلك البلد. طلب الرجل، رحمه الله، عدم نشر الموضوع لأنه كان مطلوباً من الاستخبارات الأميركية وكان علي الانصياع بموجب قواعد المهنة.
أنفقت مئات الأيام سائلاً عن ارتكابات نظامي صدام حسين ومعمر القذافي. عن اغتيال المعارضين أو اختفائهم. عن الجثث المتعفنة في السجون أو المطمورة سراً في الصحراء. وكنت أسجلها لاعتقادي أنها تنتمي إلى الماضي وأن عالمنا العربي تعلم من تلك المشاهد ويستعد للخروج منها ولن يسمح بتكرارها.
أكتب تحت وطأة صورة. إنها صورة «مجاهد» من «الدولة الإسلامية» ووراءه علقت رؤوس عدد من الضباط السوريين. يبدو الرجل سعيداً ومبتسماً. واضح أنه يفاخر بـ «الإنجاز». يرفع سبابته كمن يحذر أن رؤوساً كثيرة قد أينعت وحان قطافها. لا أقصد أبداً القول إن الجيوش في المنطقة تتصرف وفق قواعد مواثيق جنيف الإنسانية وإنها لا تقطع رؤوس المدن والقرى. لكن الصورة راعبة فعلاً.
تقضي الأمانة القول إننا عشنا سنوات من قطع الرؤوس ولو في صورة أخرى. قطع الغزو الأميركي للعراق رأس نظام صدام حسين. وتوهمنا أن نظاماً ديموقراطياً سيقوم على أنقاض نظامه. ننظر اليوم إلى العراق ونخشى أن تكون الكراهيات قطعت رأس خريطته أيضاً. ها هو «داعش» يقطع رأس الأقليات في مناطقه ويقتلع المختلفين من جذورهم وينسف المراقد ويحرق الكنائس ويقطع رأس التعايش بعدما قطع رأس الحدود الدولية. أوقعتنا عقود الظلم في بحر الظلام.
بالانتقال إلى سورية تبدو الصورة فظيعة ورهيبة. «داعش» يسيطر على ثلث مساحة سورية أي ما يبلغ خمسة أضعاف مساحة لبنان. وهذا يعني أن ملايين السوريين والعراقيين يعيشون في ظل «خلافة البغدادي». «داعش» يسيطر على معظم النفط والغاز والسلة الزراعية لسورية وهو قرب الحدود العراقية والتركية والأردنية. «داعش» يبيع النفط ويغير ملامح المجتمع ويقطع الرؤوس. وفي موازاة ذلك يقطع بنيامين نتانياهو رؤوس أطفال غزة.
واضح أننا ننحدر من هاوية إلى هاوية أدهى. قساة اليوم أخطر بما لا يقاس من قساة البارحة. قساة اليوم يهددون الدول والمجتمعات والمجموعات والخرائط والحاضر والماضي والمستقبل. تعايش العالم مع قساة البارحة. لعب معهم وشاركهم وناكفهم. قساة اليوم بلا عنوان معروف ويغرفون من قاموس الرؤوس المقطوعة. على دول المنطقة والعالم التبصر والتحرك.
أكتب بعد عودتي من زيارة إلى لبنان. إلى جمهورية تعيش بلا رئيس. إلى جمهورية الرأس المقطوع. أذهلني أن سياسيين يراقبون القصر الشاغر ولا يرف لهم جفن مع علمهم أن «داعش» على مرمى حجر. ثمة من يخشى أن يدخل أبو بكر البغدادي الخريطة اللبنانية قبل أن يدخل الرئيس الجديد قصر بعبدا. لا يحق للشبق الرئاسي إلحاق لبنان بإقليم الرأس المقطوع.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إقليم الرأس المقطوع إقليم الرأس المقطوع



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia