سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين

سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين

سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين

 تونس اليوم -

سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين

جورج سمعان

 «العسكرة الروسية» في سورية لم تتضح معالمها كاملة بعد. لكنها بالتأكيد تندرج في إطار سياسة استراتيجية. إنها خطوة في إطار مشروع قديم. وتطور طبيعي لنهج الرئيس فلاديمير بوتين. نهج عبر عنه أفضل تعبير يفغيني بريماكوف في أكثر من مناسبة وكتاب وخطاب. حتى يخيل أن سيد الكرملين يسير على خطى نظرية صديقه الذي نعاه قبل أشهر. وصفه بأنه رجل دولة وعالِم وسياسي ترك إرثاً ضخماً جداً. وأنه أراد دوماً أن يستمع إلى آرائه في القضايا الدولية. وخلاصة النظرية أن بلاده الضعيفة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكنها مواجهة الولايات المتحدة والغرب عموماً. لكنها يمكن أن تعود قوة عظمى كما في السابق بالحفاظ على «الخارج القريب» من الفضاء الروسي. أي الجمهوريات السوفياتية السابقة. ثم الانطلاق بالتدريج نحو الأبعد. دعا إلى تمتين عرى «رابطة الدول المستقلة» (روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا ومولدلفيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وكازخستان وطاجيكستان وقرغيزستان). ونادى باكراً، مطلع التسعينات، بقيام «المثلث الذهبي» مع الهند والصين. لم يحض على مقاطعة أميركا بل حض على التفاوض معها. وبالفعل قاوم الرئيس الروسي سعي «الناتو» إلى ضرب طوق حول بلاده. لم يتردد لحظة، كما هو معروف، في اقتطاع أوسيتيا وأبخازيا من جورجيا عندما شعر بأنها تسعى إلى دخول الحلف، واستضافة جزء من «الدرع الصاروخية» للأطلسي. كما لم يتردد في القفز إلى أوكرانيا واقتطاع ما طالته يده. وهو يرفع عصا التهديد في وجه دول البلطيق بذريعة حماية المجموعات الروسية في هذه البلدان.

وبريماكوف هو أيضاً صاحب مقولة أن روسيا «لا يمكنها إلا أن تكون في الشرق الأوسط، ولا أريد أن يتكون انطباع لدى أيّ كان بأنها تنوي الذهاب من هناك». وهذا ما يريد تأكيده الرئيس بوتين من انخراطه العميق في الأزمة السورية. وهو استمع إليه بوجوب استعادة صداقات السوفيات التاريخية مع العرب، من مصر إلى العراق وما تيسر بينهما في الطريق. والواقع أن روسيا منذ أيام بطرس الأكبر تجد صعوبة في التصالح مع الغرب، أي أنها ترفض سيطرة أميركا وأوروبا عليها، ليس بمعنى القوة أو الحرب، بل بالمفاهيم الثقافية وطرق الحكم والإدارة وسياسة الناس. تؤمن بأن لها دوراً خاصاً ومختلفاً. والدعاية التي يروج لها الإعلام الروسي اليوم استعادة للإعلام السوفياتي: الغرب هو العدو. مع فارق واضح أن الناس كانوا أيام الحرب الباردة يتوقون إلى الانعتاق وعيونهم على أوروبا وأميركا. فيما تحفزهم اليوم روح قومية صاعدة. ويقفون خلف زعيمهم على رغم كل ما يقال عن المعارضة. وعلى رغم أن الأزمة الاقتصادية مستفحلة بفعل العقوبات وتدني أسعار الوقود.

ولا شك في أن الرئيس بوتين أفاد في «هجومه» من «قعود» الإدارة الأميركية الحالية، أو اعتكافها وترددها في المبادرة الجدية والمواجهة، ليعزز نفوذه ودوره في أزمتي جورجيا وأوكرانيا أو في أزمات الشرق الأوسط عموماً وسورية خصوصاً. وكان من سنوات بدأ بتحديث المؤسسة العسكرية وتحويل جيشه قوات محترفة معززة بأفضل الأسلحة. ومعروف أن موازنة هذه المؤسسة ربما كانت نسبياً الأكبر في العالم: نحو عشرين في المئة من الموازنة العامة للبلاد. التدخل في سورية إذاً يأتي في إطار مشروع وخطة ليسا جديدين. والهدف معروف: منع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد خصوصاً المؤسسة العسكرية، والحفاظ على الحضور الروسي الراجح في الشرق الأوسط وبناء قاعدة ثابتة في بلاد الشام. إضافة إلى استعادة العلاقات القديمة مع مصر والعراق. والهدف أيضاً جر أميركا وأوروبا إلى طاولة تفاوض تشمل أزمتي سورية وأوكرانيا وغيرهما من القضايا الكثيرة العالقة بين الطرفين. وكان اختيار توقيت التدخل مدروساً، وإلا لماذا لم يتم سابقاً عندما كان النظام في دمشق يتعرض لما تعرض له من تراجع في الأشهر الأخيرة؟ خطا الرئيس بوتين خطوته فيما المعنيون الآخرون بأزمة سورية منشغلون بأزماتهم. ولا حاجة إلى سرد ما تواجهه أميركا وأوروبا وتركيا ودول الخليج وإيران ومصر... من صراعات داخلية وحروب على حدودها، أوما تعانيه من تداعيات الاتفاق النووي وأزمة اللاجئين وغير ذلك مما بات معروفاً.

لذا ليس مبالغة القول إن الكرملين فرض قواعد جديدة على اللعبة. وما على جميع المعنيين بأزمة سورية سوى إعادة النظر في حساباتهم ومقارباتهم. والحديث عن احتمال رفع التحدي إلى حد الانخراط الميداني في الحرب يرفع وتيرة الضغط على هؤلاء. والهدف إرساء تسوية سياسية مرضية لموسكو، وفتح حوار في شأن الأزمات الأخرى وعلى رأسها أوكرانيا من أجل فك طوق العقوبات. وهذا هو الثمن الأساس الذي تريده روسيا. يمكنها أن تصبر على ضائقتها كما فعلت طهران التي لم تجد واشنطن في النهاية مفراً من الحوار معها. وقد نجح الرئيس بوتين حتى الآن في فرض أجندته على الجميع: أولوية الحرب على الإرهاب. وقد بدأ التنسيق بين القيادتين العسكريتين في موسكو وواشنطن. ولعلهما سيتقاسمان الأدوار: هذه تتولى «داعش» سورية، وتلك «داعش» العراق. ليس ضرورياً جلوس الطرفين الآن للبحث في سبل التنسيق. يمكن تكرار نموذج العراق حيث يخوض التحالف الدولي حربه على «الدولة الإسلامية» وتخوض إيران حربها هي الأخرى، كل بوسائله في أطار قواعد مدروسة ومصانة. والتنسيق نفسه هذا سينسحب أيضاً على الإسرائيليين الذين أغاروا أكثر من مرة على مواقع في قلب سورية بذرائع كثيرة. وهو ما سيحمله بنيامين نتانياهو إلى موسكو وهو يسمع بعض دوائره التي لا ترى ضرراً في الوجود العسكري الروسي إذا كان سيؤدي إلى إطالة الحرب التي تستنزف فيها إيران وينشغل بها «حزب الله»!

ولماذا لوم روسيا في فرض هذه الأولوية؟ أهل التحالف بدلوا في الأولويات. بريطانيا وفرنسا قررتا أخيراً، بعد أميركا، الانضمام إلى الطائرات الأميركية التي تضرب التنظيم الإرهابي في سورية. وأهملوا شروط أنقرة التي أصرّت على ضرب نظام الرئيس بشار الأسد أيضاً. صحيح أن القوى الغربية لا تزال تتمسك بشعار رحيل الأسد، لكن انخراطها العسكري في الأجواء السورية ليس عملياً سوى رفع أولوية محاربة الإرهاب على أي قضية أخرى. أي ان مواجهة الإرهاب لا تسير بالتوازي مع التسوية السياسية التي تصر عليها واشنطن والعواصم الغربية وبعض العرب. والسؤال اليوم: هل يبدل التدخل الروسي في المعادلات الحربية على الأرض؟ حتى الآن يصعب تحقيق إنجازات عجز عنها الجيش السوري وحلفاؤه. مثل هذا الأمر يستدعي الزج بآلاف الجنود. إذاً هل يكتفي الروس بإعادة هيكلة الجيش السوري ومده بالعتاد الحديث اللازم لضمان بقاء النظام في المناطق التي يسيطر عليها حالياً مع تحسين بعض المواقع هنا وهناك؟ أم أن هناك هدفاً آخر من الحرب على «داعش» «علناً» هو تحقيق إنجازات على الأرض ترغم كل أطياف المعارضة، خصوصاً «الائتلاف الوطني» والفصائل العسكرية التي تسمى معتدلة على تليين موقفها؟

من المسلم به أن الجبهات الساخنة التي تهدّد النظام يمسك بها «الجيش السوري الحر» والفصائل الإسلامية، من «أحرار الشام» إلى «جيش الإسلام» وغيرهما من ألوية و»جيوش». والانتكاسات الأخيرة التي أصيب بها كانت على هذه الجبهات، فضلاً عن تدمر التي استولى عليها تنظيم «الدولة الإسلامية». وأي تحرك روسي لاستعادة بعض ما فقده النظام يعني أن تشمل «الحرب على الإرهاب» حكماً كل هذه الفصائل «المعتدلة» وغير المعتدلة. في ضوء هذا الواقع ربما هدف التدخل الروسي إلى إرغام المعارضة على القبول ببقاء الرئيس الأسد، إن لم يكن لفترة معينة، فعلى الأقل القبول بتقاسم السلطة معه، كل في أرضه. علماً أن الأسد سيزداد تشدداً بعد الدعم الروسي. وهو أعلن أخيراً أن لا تسوية سياسية قبل دحر الإرهاب. أمام تطور كهذا لن يكون أمام المعارضة سوى خيارين: إما مواجهة التدخل الروسي وتوسعه، وإما القبول بخطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بلا أسئلة وتحفظات، على رغم ما يكتنف مآلاتها من غموض وتعمية، ومحاولة دفن بند الهيئة الحاكمة بصلاحيات مطلقة بين بنود أخرى كثيرة لا تعدو كونها مجرد قرارات وإجراءات يمكن هذه الهيئة اتخاذها مستقبلاً.

لا أحد يتوقع أن يجازف الرئيس بوتين في الذهاب بعيداً. لا تغيب عن باله تجربة أفغانستان. ومن المبكر توقع حدود التدخل في سورية. الثابت حتى الآن أن الولايات المتحدة لم تبد معارضة. بل سارعت إلى التنسيق. وقد ينتقل هذا من التكتيك العسكري كما قالت إلى حوار سياسي ما دام أنها هي الأخرى لا تمانع في «رحيل مؤجل» للأسد، ولا تريد سقوط النظام من دون ضمان «اليوم التالي». وإذا كانت موسكو ستساعدها على أهدافها الرئيسة في محاربة «داعش» فقد لا تجد غضاضة في مجاراتها في التسوية السياسية. وسيد الكرملين قادر على انتظار موعد لقائه مع الأميركيين والأوروبيين، ما دام أنهم سكتوا من قبل عن جورجيا وأوكرانيا. لكن الانتظار طويلاً ربما حمل مفاجآت غير محمودة، فالتدخل قد يتدحرج ليهدد «نظرية» بريماكوف و»هجوم» بوتين!

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين سورية بين «نظرية» بريماكوف و«هجوم» بوتين



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 00:00 2016 الخميس ,22 كانون الأول / ديسمبر

عليك النظر إلى المستقبل البعيد واختيار الأنسب لتطلعاتك

GMT 04:00 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

مستقبل إردوغان

GMT 13:21 2021 الخميس ,22 إبريل / نيسان

عملاق صيني للطرق الوعرة سيظهر العام الجاري

GMT 11:08 2021 السبت ,05 حزيران / يونيو

شركة كيا تكشف عن النسخة الأحدث من طراز K5

GMT 12:43 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة شخص وإصابة 2 بتصادم 3 سيارات في دبي

GMT 06:02 2012 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق تعاون بين الأردن والكويت

GMT 12:58 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

آلات قطر الإعلامية والدينية.. والتحريض على مصر وجيشها

GMT 07:04 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

كثرة التنقل
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia