عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا

عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا

عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا

 تونس اليوم -

عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا

خيرالله خيرالله

كان تاريخ النظام السوري، منذ ما قبل استيلاء البعث على السلطة، سلسلة من عمليات الهروب إلى الخارج لتغطية الأزمة العميقة التي يعاني منها البلد منذ استقلاله.

يمتلك رئيس النظام السوري بشار الأسد قدرة، ليس بعدها قدرة، على الانتقام من سوريا والسوريين. كان آخر دليل على ذلك الحديث الذي أدلى به إلى مجلة “باري ماتش” الفرنسية، والذي يبدو واضحا أنّه جزء من حملة علاقات عامة تستهدف تلميع صورة رجل مسؤول عن مئتي ألف قتيل من مواطنيه وتهجير نصف أبناء الشعب، فضلا عن تدمير المدن والبلدات السورية.

الأكيد أنّ لدى المجلة ما دفعها إلى إجراء الحديث والتباهي به. ما ليس أكيدا هو مساهمة الحديث في تغيير شيء في الواقع السوري المتمثّل في أنّ النظام انتهى، لكنّه يصر على أن تنتهي سوريا معه.

خلاصة الحديث أن بشّار الأسد يرفض مغادرة الموقع الذي يحتله بالقوة والذي ورثه عن والده. يتحدّث عن “دولة” يقف على رأسها في حين أنّه لم توجد في سوريا الحديثة، أقلّه منذ تولي حزب البعث السلطة نتيجة انقلاب عسكري في الثامن من مارس 1963 أي مؤسسات لدولة من أي نوع كان. كل ما هناك نظام عسكري- أمني، يدعي أنه دولة، ولم تكن لديه في يوم من الأيّام أي شرعية.

تطوّر هذا النظام في اتجاه واحد، في اتجاه تحوّله من مجرد تركيبة مدنية- عسكرية في البداية إلى تركيبة طائفية، على رأسها عدد من الضبّاط العلويين اختُزلت التركيبة هذه ابتداء من العام ألف وتسعمئة وسبعين برجل واحد هو حافظ الأسد.

في عهد بشار الأسد، صارت التركيبة ذات طابع عائلي بعدما وضع أقرباؤه المباشرون يدهم على كل المرافق الاقتصادية للبلد في كل المجالات والحقول.

باختصار، لم توجد في سوريا ما بعد البعث مؤسسات لدولة. كانت هناك مجموعة من الأجهزة الأمنية تسيطر على الدولة وتسيّرها لا أكثر. كانت في الواجهة في بعض المواقع شخصيات سنية استخدمت لمجرّد التمويه. لم يكن يجمع بين هذه الشخصيات سوى أنّها من سُنّة الأرياف، نظرا إلى كره حافظ الأسد لسنة المدن الكبيرة. ما يجمع بين مصطفى طلاس وحكمت الشهابي وعبدالحليم خدّام وفاروق الشرع هو كونهم جميعا من سنّة الأرياف. الأهمّ من ذلك، أنهم كانوا مجرّد بيادق في لعبة يديرها حافظ الأسد الذي كان يستطيع التدمير والابتزاز واللعب على التوازنات الإقليمية… والذي اعتقد أن في استطاعته بناء دولة، لا مؤسسات فعالة فيها سوى المؤسسات الأمنية.

كان من المفيد قراءة حديث بشّار الأسد، أقلّه من أجل اكتشاف ما اكتشفه كثيرون منذ اندلاع الثورة الشعبية في سوريا في مارس 2011. تبيّن منذ اليوم الأول لاندلاع تلك الثورة الحقيقية أنّ بشار الأسد لا يعرف شيئا عن البلد الذي يحكمه بالحديد والنار وكل أشكال القمع. يتفهّم اللبنانيون، قدر الإمكان، أنّه لم يكن يعرف شيئا، ولو قليل القليل، عن لبنان. لكنّ الفضيحة الكبرى كانت جهله بسوريا والسوريين أيضا. لم تكن لديه حتى واجهات شكلية يمكن أن توحي بأن هناك مشاركة ما، ولو نظريا في السلطة.

يؤكد كل ما في حديث بشار الأسد أن ليس في استطاعة الرجل الخروج من حال الإنكار التي يعاني منها. لا يزال يعيش داخل عالم خاص به لا علاقة له بالواقع. يعتقد أنّه على رأس دولة، في حين أنّه على رأس مجموعة عائلية أقرب إلى مجلس إدارة لشركة. يتولى مجلس الإدارة هذا تسيير شركة اسمها سوريا. الشركة مفلسة حاليا، وصارت هناك حاجة إلى من يغذيها من الخارج، فجاءت المشاركة الإيرانية التي ارتدَتْ أشكالا مختلفة صبّت، في نهاية الأمر، في جعل الشركة التي اسمها سوريا شركة تمتلك إيران معظم الأسهم فيها. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير انفراط عقد العائلة شيئا فشيئا من جهة، ومؤشرات على نقمة داخل أوساط علوية على بشّار من جهة أخرى.

كان تاريخ النظام السوري، منذ ما قبل استيلاء البعث على السلطة، سلسلة من عمليات الهروب إلى الخارج لتغطية الأزمة العميقة التي يعاني منها البلد منذ استقلاله. إنّها أزمة نظام وكيان في الوقت ذاته. كان الانقلاب العسكري الأوّل لحسني الزعيم تعبيرا عن هذه الأزمة التي صارت فاقعة مع قيام الوحدة المصطنعة مع مصر التي لم تدم سوى ثلاث سنوات.

لا حاجة إلى سرد المحطات التي مرّت بها سوريا، بما في ذلك، أخذ العرب إلى حرب خاسرة سلفا في العام 1967، حين كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع. لا حاجة إلى الاسترسال في كيفية إيقاع لبنان، عن سابق تصوّر وتصميم، تحت عبء الوجود الفلسطيني المسلّح في العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي لا يزال الوطن الصغير يعاني منه. لا حاجة إلى تكرار كيف أنّ النظام السوري وبعد حرب تشرين 1973 وجد نفسه في طريق مسدود، خصوصا بعد زيارة الرئيس أنور السادات للقدس في خريف العام 1977.

هرب النظام السوري إلى لبنان. استخدم الورقة الفلسطينية ثم الغرائز المذهبية إلى أبعد حدود من أجل احتلال البلد الجار عسكريا طوال ثلاثة عقود. وفي مرحلة معيّنة هرب إلى العراق. تصالح حافظ الأسد مع عدوّه اللدود صدام حسين للوقوف في وجه أنور السادات ظاهرا. الحقيقة أنّ صدّام حسين الذي لم يكن هناك من يتفوّق عليه بالغباء السياسي، وقع وقتذاك في الفخّ الذي نصبه له الأسد الأب…

في السنة الجارية، يتبين أنه لم يعد أمام بشار الأسد الذي خرج من لبنان نتيجة اغتيال رفيق الحريري، سوى الهرب إلى سوريا بعدما انتفضت في وجهه. إلى متّى يستطيع ممارسة لعبة الهروب هذه؟

يتحدّث عن “دولة” لا وجود لها في سوريا، ويلقي التهم يمينا ويسارا رافضا الاعتراف بأمرين، الأوّل أنّه لم تكن لديه شرعية ما في أي يوم من الأيام، والآخر أن الأجهزة الأمنية والشركات العائلية لا تصنع دولا. أقصى ما تستطيع هذه الأجهزة وهذه الشركات صنعه هو البراميل المتفجّرة. أقصى ما يمكن أن تصنعه هو تشريد مزيد من السوريين وتمكين إيران وأدواتها من بسط سيطرتها أكثر فأكثر على البلد، أو على ما بقي منه.

الثابت وسط كل هذه المأساة أن حديثا في مجلة فرنسية لا يقدم ولا يؤخر. إنه عودة إلى أساليب قديمة، تجاوزها الزمن لإظهار النظام في مظهر من لديه شيء يقوله. كل ما في الأمر أن الحديث كان مناسبة أخرى للتأكد من أن بشار الأسد يعيش في عالم لا علاقة له بالعالم. كل يوم يبقى فيه في دمشق يعني مزيدا من الخراب والتفتيت لبلد كان يمكن أن يكون من أفضل دول المنطقة وأكثرها ازدهارا، لو وجد فيه، في يوم من الأيّام، شخص طبيعي في السلطة يدرك أن لعبة الهروب إلى الأمام، إلى خارج سوريا، سترتد عليها عاجلا أم آجلا.

كم كان حجم هذا الارتداد ضخما، خصوصا بعدما اضطرّ بشّار إلى الهرب في اتجاه سوريا؟

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia