إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية

إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية

إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية

 تونس اليوم -

إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية

بقلم - خير الله خير الله

لا يمكن إلّا الترحيب بعودة "الكتلة الوطنية" وبالروح الجديدة الني ترافق هذه العودة، ولكن من دون تجاهل حجم التحديات المطروحة في منطقة تمرّ كلها، بما في ذلك لبنان، بمرحلة انتقالية.
ولد “حزب الكتلة الوطنية” مع الاستقلال في العام 1943. يعود الآن إلى الحياة السياسية اللبنانية بعد غياب طويل استمرّ نحو تسعة عشر عاما نتيجة وفاة الزعيم الوطني اللبناني ريمون ادّه في شهر أيّار – مايو من العام 2000. ما حدث في بيروت قبل أيّام يشبه إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية.

كان ريمون ادّه ينتمي إلى فئة خاصة ومختلفة من السياسيين اللبنانيين. كان بين السياسيين القلائل الذين لم يرتبط اسمهم يوما بالفساد أو الانتهازية أو البحث عن المال. فوق ذلك كلّه لم يكن ريمون ادّه ذلك الماروني اللاهث إلى رئاسة الجمهورية. كان فوق ذلك. كان أهمّ ما فيه أنّه لم يقبل بأن يكون رئيسا للجمهورية بأيّ ثمن. لا يتجاوز عدد السياسيين الموارنة الذين رفضوا أن يكونوا في موقع رئيس الجمهورية، لقاء ثمن ما، عدد أصابع اليد الواحدة في كلّ تاريخ لبنان.

هناك مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال أخذوا على عاتقهم إحياء الحزب الذي جسّد كلّ القيم الحضارية التي مكنت لبنان من أن يكون بلدا مزدهرا حتّى العام 1975، حين بدأت الحرب الأهلية وحروب الآخرين على أرض لبنان الذي ذهب ضحيّة عوامل كثيرة جعلت الوضع فيه ينفجر. كان من أهمّ هذه العوامل الوجود الفلسطيني المسلّح الذي أعطاه اتفاق القاهرة المشؤوم شرعية ابتداء من العام 1969، تمهيدا للانفجار الكبير في 1975.

لعلّ أهمّ ما رفضه ريمون ادّه هو حمل السلاح. بقي حزبه خارج الحرب الأهلية، وبقي الرجل يحذّر المسيحيين من التحوّل إلى ميليشيا والدخول في مواجهة مع الفلسطينيين ومع المسلمين في الوقت ذاته. يمكن تعداد حسنات ريمون ادّه إلى ما لا نهاية. يكفي أنّه الزعيم الماروني الوحيد الذي أخذ موقفا واضحا من اتفاق القاهرة وصوّت ضدّه في مجلس النوّاب. وقتذاك، وافق مجلس النواب على اتفاق لم يطّلع على نصّه بعدما اعتكف رئيس الوزراء رشيد كرامي طويلا.

يروي شاهد عيّان أن ريمون ادّه حذّر رشيد كرامي وهما يصعدان درج مجلس النوّاب من النتائج التي ستترتب على موافقة البرلمان على اتفاق القاهرة، الذي يعني بين ما يعنيه تخلّي لبنان عن سيادته على جزء من أرضه وتوفير كلّ المبررات لإسرائيل كي تعتدي على مواقع في الداخل اللبناني متذرّعة بأنّها تتعرّض لهجمات انطلاقا من الأراضي اللبنانية. أجابه رشيد كرامي: كيف تريد من رشيد عبدالحميد كرامي الاعتراض على اتفاق القاهرة، فيما وافق عليه الزعيم المسيحي فلان الفلاني؟

نادى ريمون ادّه باكرا بـ”حياد لبنان”، ودعا إلى انتشار قوات دولية على طول خط وقف الهدنة بين لبنان وإسرائيل. كان رجلا منطقيا. كان يعرف أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يكون من لبنان، وأن اتفاق القاهرة ليس سوى بداية الخراب للبلد. سألته مرّة ما الذي كان يتطلّع إليه وما اعتراضه على حمل المسيحيين السلاح ومواجهة الفلسطينيين؟ فأجاب أنّه يحلم بقيام جبهة مسيحية – مسلمة تعترض على الوجود الفلسطيني المسلح وتضع حدّا له. قال أيضا إن المسيحيين وحدهم لا يستطيعون مقاومة الفلسطينيين، خصوصا عندما يعتبر المسلمون أن “الفدائيين” صاروا جيشهم.

باختصار شديد، كان ريمون ادّه يؤمن بالمنطق في وقت صار كلّ من يستخدم عقله ويتحلّى بالاعتدال يوصف بأنه مجنون. تعرّض أنصار ريمون ادّه من “الكتلة الوطنية” لاعتداءات طوال حرب السنتين (1975 – 1976). كان سبب ذلك رفضهم اللجوء إلى تشكيل ميليشيا خاصة بالحزب، على غرار ما فعل “حزب الكتائب” بزعامة بيار الجميّل، و”الوطنيون الأحرار” بزعامة كميل شمعون رئيس الجمهورية بين 1952 و1958.

لا تعني هذه المقدّمة الطويلة أنّ المسيرة السياسية لريمون ادّه كانت خالية من الأخطاء، خصوصا أن الرجل اصطدم من دون مبرّر حقيقي بالرئيس فؤاد شهاب الذي سعى إلى بناء دولة مؤسسات بين 1958 و1964. كان اعتراضه على الدور الذي بدأ يمارسه ضبّاط المكتب الثاني (الاستخبارات) العسكرية الذين راحوا يتدخلون في السياسة. عمل ريمون ادّه على تدمير عهد فؤاد شهاب مع آخرين غيره، وانضمّ إلى الحلف الثلاثي مع بيار الجميّل وكميل شمعون، على الرغم من أن لا شيء كان يجمعه بالزعيمين المارونيين الآخرين.

لدى وفاة ريمون ادّه في باريس، التي نفى نفسه إليها بعد اعتراضه على الدخول السوري إلى لبنان وتعرّضه لمحاولات اغتيال، لم يعد من وجود يذكر لـ”حزب الكتلة الوطنية”. لم يكن من وريث لريمون ادّه غير ابن شقيقه كارلوس الذي عاش معظم حياته خارج لبنان ولم يستطع التكيّف مع الحياة السياسية في البلد بسبب نزاهته واستقامته ورفضه الدخول في أيّ نوع من الصفقات… وبسبب ثقل دم عدد لا بأس به من اللبنانيين وسطحيتهم إلى حدّ كبير.

ليس سرّا أن كارلوس ادّه رجل عصري يعرف العالم بكل تعقيداته، وكان أوّل ما قام به تخليه عن موقع “العميد” لـ”الكتلة الوطنية” الذي يسمح له بأن يكون المرجع الأوّل والأخير في الحزب. أنهى التوريث وفتح المجال أمام قيام حزب عصري يؤمن بالديمقراطية الحقيقية وبالشفافية في التعاطي مع المواطن، بعيدا عن أيّ نوع من الانتهازية والوعود الزائفة والتهييج الطائفي والمذهبي.

لا شكّ أن المجموعة التي تعمل من أجل إحياء “الكتلة الوطنية” تضمّ رجالا صادقين يعرفون تماما كيف تبنى الدول الحديثة. هذا ما توحي به الملفّات التي يعدون بمعالجتها، بدءا بالفساد والزبائنية، وصولا إلى المحافظة على البيئة وحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية. لكنّ مشكلة هؤلاء ذات أبعاد عدّة. في طليعة هذه الأبعاد أن لبنان الذي كان قائما أيّام ريمون ادّه لم يعد موجودا. في أساس كلّ مشاكل لبنان السلاح غير الشرعي لميليشيا مذهبية تابعة لإيران. حلّ السلاح الإيراني مكان السلاح الفلسطيني والسوري الذي شكا منه ريمون ادّه وسعى إلى وضع حدّ له.

لا يمكن حلّ أيّ مشكلة قبل التصدّي للدولة التي أقامها “حزب الله” في لبنان والتي تسمح له بأن يقرر من هو رئيس الجمهورية، وأن يكون صاحب التوقيع الثالث على تشكيل الحكومة اللبنانية. في النهاية تظلّ المشكلة الأكبر، التي تواجه لبنان حاليا، ذات طابع اقتصادي. كيف التعاطي مع الأزمة الاقتصادية التي يمكن أن تقضي على العمود الفقري للبنان، وهو النظام المصرفي، في وقت يعتبر “حزب الله” لبنان مجرّد “ساحة” في تصرّف إيران؟

يبقى سؤال في غاية الأهمّية لا بدّ من طرحه في مناسبة الحديث عن عودة “الكتلة الوطنية”، أي عودة “حزب الأوادم” الذين رفضوا السلاح وأي استخدام له. هذا السؤال هو الآتي: كيف تصبح “الكتلة الوطنية” حزبا خارقا للطوائف وليس حزبا نخبويا مسيحيا. أي كيف تصبح حزبا فيه أعضاء من كلّ المناطق والطوائف والمذاهب والطبقات الاجتماعية؟

لا يمكن إلّا الترحيب بعودة “الكتلة الوطنية” وبالروح الجديدة الني ترافق هذه العودة، ولكن من دون تجاهل حجم التحديات المطروحة في منطقة تمرّ كلها، بما في ذلك لبنان، بمرحلة انتقالية.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية إضاءة شمعة في الظلمة اللبنانية



GMT 12:13 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

ماذا سيفعل العراقيون بعد اقتحام السفارة؟

GMT 12:10 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

أردوغان يعاني في بلاده

GMT 11:56 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

دبلوماسيّون: حراك مكثف على ساحة متأرجحة!

GMT 11:38 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

الباجي وخطيئتا بورقيبة وبن علي

GMT 11:29 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

الإمارات ملتقى الأمم

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 00:00 2016 الخميس ,22 كانون الأول / ديسمبر

عليك النظر إلى المستقبل البعيد واختيار الأنسب لتطلعاتك

GMT 04:00 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

مستقبل إردوغان

GMT 13:21 2021 الخميس ,22 إبريل / نيسان

عملاق صيني للطرق الوعرة سيظهر العام الجاري

GMT 11:08 2021 السبت ,05 حزيران / يونيو

شركة كيا تكشف عن النسخة الأحدث من طراز K5

GMT 12:43 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة شخص وإصابة 2 بتصادم 3 سيارات في دبي

GMT 06:02 2012 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق تعاون بين الأردن والكويت

GMT 12:58 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

آلات قطر الإعلامية والدينية.. والتحريض على مصر وجيشها

GMT 07:04 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

كثرة التنقل

GMT 10:23 2021 الأربعاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

أفكار بسيطة لإضافة لمسة بوهيمية جذابة إلى منزلك

GMT 13:38 2013 الإثنين ,30 كانون الأول / ديسمبر

أسوأ إطلالات المشاهير لعام 2013
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia