هناك عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة ما زال في قيد التكوين. هذا العالم جديد ومختلف إلى درجة أصبح فيها دونالد ترامب رئيسا للقوة العظمى الوحيدة في العالم. بعد شهرين ونصف شهر على انتصار ترامب على هيلاري كلينتون في سباق الرئاسة الأميركية، وبعد نحو عشرة أيّام على دخوله البيت الأبيض وبدء ولايته الرئاسية، لا يزال العالم يقف حائرا قبالة هذه الشخصية التي استطاعت الوصول إلى موقع الرئاسة بأفكار شعبوية وخطاب سياسي لا ينمّ عن معرفة بقضايا العالم باستثناء إطلاق شعارات كبيرة من نوع “أميركا أوّلا”. ماذا تعني هاتان الكلمتان باستثناء استفزاز العالم، خصوصا الجيران المباشرين للولايات المتحدة مثل المكسيك وكندا؟
سيكون صعبا التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع داخل أميركا نفسها أو ما يخصّ سياستها الخارجية. كلّ ما يمكن قوله إن العالم دخل مرحلة لم يعد فيها مكان للمنطق.
يبدو أنّه عالم ما بعد العولمة. يسعى دونالد بلغته البسيطة، التي تقترب إلى حدّ كبير من السذاجة، إلى إلغاء العولمة. يتصدّى للعولمة عن طريق أفكار انعزالية تذكّر بمراحل معيّنة مرّت فيها الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية.
ربّما لا يذكر الرئيس الأميركي الجديد أن الولايات المتحدة لم تدخل تلك الحرب إلّا بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور في السابع من كانون الأوّل-ديسمبر 1941. هربت من الحرب، فإذا بالحرب تلحق بها!
جلست أميركا لمدة عامين تتفرّج على ألمانيا تجتاح أوروبا. تمدّدت ألمانيا النازية في كلّ الاتجاهات، خصوصا بعد الحلف الجديد الذي أقامته مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يعتقد بدوره أنّه سيكون في منأى عن الأطماع التي كانت لدى هتلر الذي وصل إلى موقع المستشار عبر صناديق الاقتراع.
عندما اكتشفت الولايات المتحدة، بعد بيرل هاربور، أنها لا تستطيع البقاء خارج ما يدور في العالم، استيقظت على وضع جديد اضطرت إلى التعاطي معه والذهاب في الحرب إلى النهاية. كانت النهاية ذلك اليوم الذي استسلمت فيه ألمانيا واليوم الآخر الذي استسلمت فيه اليابان بعد القنبلتين الذريتين اللتين استهدفتا هيروشيما وناغازاكي.
لا يستطيع دونالد ترامب عزل نفسه عن العالم وشنّ حروب اقتصادية في الوقت ذاته. سيتوجّب عليه في نهاية المطاف أن يطرح على نفسه أسئلة في غاية البساطة: هل أميركا جزء من هذا العالم أم لا؟ هل تقود العالم الحرّ أم لا؟ هل تعتقد أن وضع حدّ للعولمة وللاتفاقات التجارية مع الدول الأخرى، التي هي جزء من هذه العولمة، ستعيد أمجاد الماضي إلى الصناعات الأميركية التي طوّرت نفسها بفضل التكنولوجيا الخارقة للحدود؟
هذا غيض من فيض الأسئلة المطروحة التي سيتوجب على إدارة ترامب الإجابة عنها، بما في ذلك اتخاذ موقف من حلف شمال الأطلسي. لا يؤمن ترامب بالحلف الذي لعب دورا بارزا في التصدي للإمبريالية السوفياتية طوال سنوات الحرب الباردة.
من حسن الحظ أن وزير الدفاع الجديد الجنرال جيمس ماتيس، وهو عسكري محترف، اتخذ خطوات تستهدف طمأنة الدول الأعضاء في الحلف إلى أن الولايات المتحدة ما زالت متمسكة به. من نصدّق: دونالد ترامب أم وزير الدفاع في إدارته؟
في انتظار بلورة اتجاه واضح لإدارة ترامب، سيترتّب على أميركا التكيّف مع العالم وسيترتب على العالم التكيّف مع أميركا الجديدة المستعدة لبناء جدار مع المكسيك، وذلك في انتظار اليوم الذي يكتشف الرئيس الأميركي أنّه ليس قادرا لا على تغيير الولايات المتّحدة ولا على تغيير العالم. كلّ ما يستطيع عمله هو زرع بذور الفوضى في عالم لا يزال يبحث عن نظام جديد منذ انهيار جدار برلين في تشرين الثاني-نوفمبر 1989.
انهار الجدار قبل أقلّ بقليل من ثلاثة عقود. دخل العالم بعد انتهاء الحرب الباردة في حال من عدم التوازن. ما زالت هذه الحال مستمرّة إلى اليوم. الأكيد أن السياسة الانعزالية التي ينتهجها دونالد ترامب لن تضع حدّا لها.
على العكس من ذلك، سيزداد الوضع العالمي اضطرابا، لا لشيء سوى لأن العولمة ظاهرة لا عودة عنها. إضافة إلى ذلك، أن إغلاق أبواب أميركا أمام الآتين إليها وطرد الذين لا يحملون أوراقا قانونية لن يفيدا في شيء. سيساهم ذلك في التخلص من اليد العاملة الرخيصة في عالم تستغل فيه الشركات الأميركية الكبرى هذه اليد العاملة الرخيصة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، لزيادة دخلها وكي تكبر وتتوسّع.
على سبيل المثال وليس الحصر، إن هواتف “أبل” تصنع في الصين، وقمصان “رالف لورن” تصنع في أماكن مختلفة من العالم، بما في ذلك جنوب شرق آسيا. لا غنى للشركات الأميركية عن الصين والهند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وحتّى فيتنام. تمتد الدول التي تنتج فيها شركات أميركية بضائع خاصة بها بين تركيا… والفليبين.
هناك تشابك بين الاقتصاد الأميركي والعالم، بين الشركات الأميركية واليد العاملة الرخيصة التي لا غنى عنها لدى هذه الشركات، داخل الولايات المتحدة وخارجها. كم سيكون ثمن الحذاء الرياضي الذي تنتجه “نايكي” في فيتنام في حال اتبعت الولايات المتحدة سياسة انعزالية؟
أكّد دونالد ترامب في خطاب القسم أنّه سيقود انقلابا على المؤسسة السياسية الأميركية. حمّلها مسؤولية كلّ الأخطاء التي ارتكبت في السنوات القليلة الماضية ولم يتردّد في إطلاق شعارات كبيرة من نوع القضاء على “الإرهاب الإسلامي المتطرف”. هل يعرف قبل كلّ شيء ما الذي يعنيه بهذه العبارة وما هي الأسباب التي أدت إلى وجود “إرهاب إسلامي”؟
لن يغيّر دونالد ترامب شيئا في هذا العالم. لن ينتصر على العولمة لسبب واحد على الأقلّ. يتمثل هذا السبب في أن العالم يسير في اتجاه العولمة يوميا. لا آفاق مفتوحة أمام الاقتصاد الأميركي من دون العولمة. مثلما لم تستطع الولايات المتحدة تفادي خوض الحرب العالمية الثانية، وقبلها الحرب العالمية الأولى، لن تستطيع إدارة ظهرها للعالم في السنة 2017.
هناك نظام دولي جديد يقوم على ما خلفته الحرب الباردة. لم تتبلور بعد طبيعة هذا النظام. الأمر الأكيد أن دونالد ترامب، بعقله التبسيطي، لن يصنع النظام العالمي الجديد ولن يغيّر لا أميركا ولا العالم.
سيفشل مثلما فشل الإخوان المسلمون في دول عربية عدة، حيث حاولوا أن يكونوا ورثة الأنظمة التي أسقطها “الربيع العربي”. فشلوا في وضع اليد على العالم العربي. فشلوا في تونس وفشلوا في ليبيا وفشلوا في مصر واليمن وفشلوا في الأردن.
قد لا تبدو هذه المقارنة، بين ما يدور في أميركا وما يجري في الشرق الأوسط، في محلّها. لكن العبرة في أنّ العالم لا يصنعه أشخاص أو أحزاب لديهم قناعة بأن في استطاعتهم تجاوز الواقع.
هناك واقع أميركي وآخر عالمي لا يستطيع ترامب تغييرهما. وهناك واقع عربي وشرق أوسطي يرفض السقوط في أسر أحزاب لم تنتج سوى مزيد من التخلف والإرهاب، خصوصا عبر ممارسات وبرامج تربوية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالقرن الحادي والعشرين، تماما مثلما أن الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك ينتمي إلى عالم آخر لا علاقة له بالمفهوم الحديث للحدود بين الدول.