تونس والتخلّص من عقدة الأجهزة الأمنية

تونس.. والتخلّص من عقدة الأجهزة الأمنية

تونس.. والتخلّص من عقدة الأجهزة الأمنية

 تونس اليوم -

تونس والتخلّص من عقدة الأجهزة الأمنية

خير الله خير الله

تونس الآن، بلد ديموقراطي يمتلك دستورا عصريا. بلد من هذا النوع، قاوم المجتمع فيه التخلف بكلّ أنواعه، لا يمكن إلّا أن ينتصر على الإرهاب.

هناك ما هو أبعد من الهجوم الإرهابي الذي استهدف متحف باردو في العاصمة التونسية وأدّى إلى مقتل عشرين سائحا أوروبيا ومواطنين تونسيين. هناك هجمة على تونس تجعل مستقبل البلد مهدّدا. تقتضي هذه الهجمة التوقّف طويلا عند ما تمرّ به تونس التي بدت وكأنّها استثناء عربي، خصوصا بعد الذي حلّ بليبيا ومصر واليمن وسوريا نتيجة الثورات الشعبية التي أسقطت الأنظمة في تلك الدول.

قبل كلّ شيء، كشفت الهجمة على المتحف وجود مجموعات إرهابية تتحرّك بحرية. هذا عائد إلى حد كبير إلى تراجع قدرة الأجهزة الأمنية على ملاحقة الإرهابيين وخلاياهم وتحديد الأماكن التي يلجأون إليها ويجدون فيها مأوى آمنا. يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال ما يدور في ليبيا حيث لم يعد من مجال في هذا البلد الجار لإيجاد أيّ ضوابط أمام انتشار السلاح والإرهاب..

يبدو كأن انهيار النظام الذي أقامه زين العابدين بن علي، بحسناته وسيئاته، أدّى إلى انهيار الأجهزة الأمنية أيضا. ففي الدول الحديثة، خصوصا في الدول الديمقراطية، لا بدّ من المحافظة على الأجهزة الأمنية وتحديد دورها بصفة كونها مؤسسات مستقلة في خدمة الدولة والمواطن وليس في خدمة النظام القائم.

في الواقع، ضعفت الأجهزة الأمنية التونسية كثيرا وفقدت فاعليتها بعد انهيار نظام بن علي، في حين كان مفروضا بعد نجاح “ثورة الياسمين” التركيز على استقلالية هذه الأجهزة والتفريق بينها وبين النظام السابق. فالإرهاب يستهدف كلّ عائلة تونسية كما يستهدف كلّ مؤسسة من مؤسسات الدولة، فضلا عن أنّه يستهدف المجتمع التونسي المنفتح الذي قاوم كلّ المحاولات التي بذلها الإخوان المسلمون من أجل القضاء على المنجزات التي تحقّقت منذ الاستقلال، خصوصا في عهد رجل استثنائي اسمه الحبيب بورقيبة.

ليس سرّا أن التونسيين، تتقدّمهم المرأة، يدافعون منذ رحيل بن علي مطلع العام 2011، عن قيم مجتمعهم المتطور. هذا سمح لهم بانتخاب مجلس للنوّاب لا تسيطر عليه “حركة النهضة” التي تعتبر جزءا لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين. تجرّأ التونسيون على “النهضة” بكلّ ما تمثّله من تخلف من جهة ورغبة في القضاء على مؤسسات الدولة من جهة أخرى.

أثبت التونسيون عبر الانتخابات التشريعية، ثمّ الانتخابات الرئاسية أنّهم يمتلكون وعيا سياسيا وحسّا وطنيا مرهفا. لذلك صوّتوا إلى جانب “نداء تونس” وأتوا بالباجي قائد السبسي، على الرغم من تقدّمه في السنّ، رئيسا للجمهورية.

قبل ذلك، تخلّصوا من الحكومات المتلاحقة لـ”النهضة” التي أرادت تغيير تركيبة مؤسسات الدولة عن طريق حشر أكبر عدد من أنصار الحركة فيها. لم تمتلك “النهضة” أيّ شعور بالمسؤولية الوطنية عندما كانت قادرة على التحكم بمفاصل الدولة والوزارات الأساسية. لم يكن من همّ لدى زعماء الحركة سوى اختراق المؤسسات، خصوصا تلك التي لديها طابع أمني.

كان الهجوم على متحف باردو حدثا مؤلما، بل كارثة. لا شكّ أنّه أعاد الاقتصاد التونسي سنوات إلى خلف، خصوصا بعد الجهود الكبيرة التي بُذلت في الأشهر القليلة الماضية من أجل إعادة الحياة إلى السياحة. هذا الحدث المؤلم ليس معزولا عن جرائم حصلت في الماضي، لكنها لم تجد من يحقّق فيها. من بين هذه الجرائم اغتيال شخصيتين وطنيتين هما شكري بلعيد ومحمّد البراهمي على يد متطرّفين ليسوا بعيدين عن الأحزاب التي ترفع شعارات إسلامية.

هناك حال انفلات في تونس أدّت إلى تفادي القيام بحملة منظمة ومستمرّة في الوقت ذاته لمعالجة المشكلة الناجمة عن الوجود الإرهابي في جبل الشعانبي. كلّف هذا الوجود قوات الأمن والجيش الكثير حتّى الآن، وبقيت الدولة التونسية في حال ردّ الفعل، بدل الإقدام على مبادرة لاجتثاث الإرهاب من جذوره.

في النهاية، مقاومة الإرهاب لا تعني العودة إلى القمع الذي مورس، وإن بطريقة ناعمة، في عهد بن علي الذي استطاع ضبط الأمن إلى حدّ كبير. هذا إذا استثنينا العمل الإرهابي الموصوف الذي استهدف زوار كنيس جربة في السنة 2002 بعد أشهر قليلة من “غزوة نيويورك وواشنطن” التي نفّذتها “القاعدة”.

بعد إعلان “داعش” المسؤولية عن الهجوم علي متحف باردو، يفترض في السلطات التونسية الذهاب بعيدا في التفكير في حماية البلد الذي يعاني أوّل ما يعاني من وجود أطراف ممثلة في مجلس النوّاب والحكومة توفّر حاضنة للإرهاب. تكفي نظرة إلى الشكل الخارجي لبعض النواب للتأكد من ذلك. ماذا يعلّم هؤلاء أولادهم، على ماذا يربّون هؤلاء الأولاد؟ مثل هؤلاء النواب وبعض الوزراء، الذين بينهم نساء، لا علاقة لهم بتونس الجديدة، تونس ما بعد “ثورة الياسمين”.

تكفي نظرة إلى الشكل الخارجي لهؤلاء للتأكّد من أن ليس مستبعدا أنّهم يروّجون، رجالا ونساء، لثقافة العنف ورفض الآخر بعيدا كلّ البعد عن الإسلام السمح الذي يعني أوّل ما يعنى الانفتاح على العالم وكلّ ما هو حضاري فيه.

المؤسف أنّ هناك تقوقعا في أوساط معيّنة في المجتمع التونسي، بما يوفّر حاضنة للإرهاب والإرهابيين. مثل هذا التقوقع يدعو إلى سماع أصوات جريئة تعترف بحصول تغيير في تونس. هذا التغيير ليس بالضرورة نحو الأفضل. إنّه تغيير يعكس فشل بن علي في امتلاك جرأة الحبيب بورقيبة في قول ما يجب قوله للتونسيين عن ضرورة اعتماد معايير التقدّم التي هي في أساسها تطوير النظام التعليمي وتحسين ذوق المواطن بدل اعتماد الأساليب الرخيصة في استرضائه، بما في ذلك الإذاعات الدينية والتظاهر بالتقوى.

يبقى ما هو أهمّ من ذلك كلّه. يبقى أنّ هناك حاجة إلى بناء مؤسسات أمنية شفافة تحمي الدولة والمجتمع والمواطن، بدل أن تحمي النظام. لا بدّ من التخلص من عقدة الأجهزة الأمنية في عهد بن علي. كانت لهذا العهد حسنات كثيرة، لا مفرّ من الاعتراف بها، لكنّ المشكلة الدائمة كانت في أن كلّ شيء في أيام بن علي كان يدور حول الرجل وزوجته الثانية والعائلة، خصوصا إخوة السيدة الأولى.

تونس الآن، بلد ديمقراطي يمتلك دستورا عصريا. بلد من هذا النوع، قاوم المجتمع فيه التخلف بكلّ أنواعه، لا يمكن إلّا أن ينتصر على الإرهاب. وهذا يتطلب قبل كلّ شيء التخلّص من سيئات عهد بن علي والاعتراف بأنّ في الإمكان إقامة أجهزة أمنية فعالة، بدل أن تكون أجهزة قمعية. ثمّة فارق بين الأجهزة الفعّالة والأجهزة القمعية. ثمّة فارق بين أجهزة تحمي المواطن والبلد وأجهزة تحمي النظام.

مستقبل تونس يعتمد بكل بساطة على القدرة على القيام بهذه النقلة النوعية التي قد لا تعني الكثير ظاهرا، لكنّها تعني الكثير في العمق. فما على المحكّ مستقبل تونس التي أظهر شعبها، أقلّه إلى الآن، أنّه شعب مقاوم بالفعل لكلّ أنواع التخلّف!

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تونس والتخلّص من عقدة الأجهزة الأمنية تونس والتخلّص من عقدة الأجهزة الأمنية



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia