بيروت تكرم نفسها عبر ريمون إده

بيروت تكرم نفسها... عبر ريمون إده

بيروت تكرم نفسها... عبر ريمون إده

 تونس اليوم -

بيروت تكرم نفسها عبر ريمون إده

خيرالله خيرالله

أن يكون في بيروت شارع يحمل اسم ريمون إده، تكريم لبيروت. ريمون إده يكرم بيروت التي أعاد رفيق الحريري بناءها، كما أعاد الحياة إليها.

في تاريخ لبنان الحديث، هناك رجال مختلفون. أهمّ ما يختلف فيه هؤلاء هو بعد النظر من جهة، ورفض ثقافة السلاح من جهة أخرى. هؤلاء الرجال عملة نادرة، لا لشيء سوى لأنّهم كانوا أكبر من المنصب، حتى لو كان هذا المنصب رئاسة الجمهورية.

كان ريمون إده الذي توفي في العام 2000 لاجئا في باريس أحد هؤلاء الرجال، وقد استفاقت بلدية بيروت أخيرا على ضرورة تسمية أحد شوارع العاصمة باسمه.

في الواقع، لا يحتاج ريمون إده إلى تكريم من المدينة التي كان جزءا من نهضتها. عندما تكرّم بيروت ريمون إده، تكون أعادت الاعتبار لنفسها أوّلا. تكون بيروت كرّمت نفسها، وتكون أفاقت متأخّرة على إصلاح خطأ تاريخي بعد مضي خمسة عشر عاما على وفاة الرجل الذي رفض الاحتكام إلى السلاح في أي وقت من الأوقات، وأراد تجنيب اللبنانيين عموما، والمسيحيين خصوصا، المصير الذي يعانون منه الآن.

قليلون هم الذين امتلكوا نظافة كفّ ريمون إده وزهده بالمناصب، وقدرته على النظر إلى المستقبل واستشفافه.

بين ما كان عليه ريمون إده وبين ما هم عليه سياسيو لبنان هذه الأيام، فارق كبير. رفض ريمون إده، مرّات عدّة، أن يكون رئيسا للجمهورية وتمسّك بمبادئه، في حين يزحف ميشال عون هذه الأيّام، من أجل الوصول إلى قصر بعبدا، راضيا أن يكون أداة لدى الأدوات الإيرانية في لبنان. حيال هذا المشهد يدرك المواطن العادي تلك الهوة بين نوعين من الرجال. الرجال الرجال، والرجال المستعدون لكلّ شيء من أجل المنصب وغير المنصب وما دون المنصب.

لم يحد ريمون إده يوما عن مبادئه. لا شكّ أنّه ارتكب خطأ كبيرا في حياته السياسية عندما بالغ في عدائه للرئيس فؤاد شهاب الذي كان مفترضا أن يكون إلى جانبه، رافضا، عن حقّ، ثقافة العسكر وتصرفّاتهم. لكنّ ريمون إده يظل سياسيا لبنانيا من نوع آخر ومن عيار مختلف. لا لشيء، سوى لأنّه كان يرفض أيّ نوع من التنازلات عندما يتعلّق الأمر بالمبادئ والصدق مع النفس.

ينتمي ريمون إده إلى مجموعة صغيرة من السياسيين استشفت، باكرا، أنّ لبنان مقبل على كوارث، وأنّ في الإمكان تجنّبها في حال توافرت الشجاعة في مجال اتخاذ القرارات الكبيرة بدل الانحناء من أجل المناصب. فريمون إدّه كان فوق المناصب، بما في ذلك رئاسة الجمهورية التي كان يمكن أن يشرّفها، في حين أن الأكثرية الساحقة من السياسيين الموارنة يركضون وراء هذا المنصب، بل يلهثون من أجل الوصول إليه.

يمكن أن نضع جانبا كلّ ما له علاقة بالسيرة السياسية لريمون إده، بما في ذلك العداء الأعمى للمدرسة الشهابية، وهو عداء كلّف لبنان الكثير، خصوصا أنّه أفضى إلى كارثة انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية في العام 1970. ولكن ما لا يمكن لأي صاحب ضمير تجاهله هو أنّ ريمون إده وقف في العام 1969 بوجه توقيع لبنان اتفاق القاهرة المشؤوم الذي أسّس لوجود السلاح غير الشرعي في لبنان. السلاح الفلسطيني أوّلا الذي عاد بالويلات على لبنان والفلسطينيين وقضيّتهم، وسلاح “حزب الله” الذي جعل لبنان دويلة في دولة “حزب الله” التابع لـ”الإمبراطورية الإيرانية”.

يكفي ريمون إده شرفا أنّه كان السياسي المسيحي الوحيد الذي قال لا لاتفاق القاهرة. قال لا، لأن لبنان كان بالنسبة إليه أهمّ من وصوله إلى رئاسة الجمهورية.

قال صراحة إنّ هذا الاتفاق الذي يجعل جزءا من الأراضي اللبنانية تحت السيادة الفلسطينية سيجلب الكوارث على لبنان واللبنانيين، ولن يخدم القضيّة الفلسطينية. لم يكن ريمون إده معاديا للفلسطينيين وقضيّتهم. على العكس من ذلك، كان معاديا لإسرائيل وأطماعها. كان قبل كلّ شيء وطنيا لبنانيا لا تهمّه المناصب. لذلك، كان فوق السياسة والسياسيين. من هذا المنطلق، عارض أي تسلّح للمسيحيين عام 1975 بغية تفادي الحرب الأهلية. كان يعرف أن موقفه سيكلّفه الكثير على الصعيد الشعبي. لكنّه كان يعرف أن دخول المسيحيين في لعبة السلاح سيخدم مصالح النظام السوري الذي كان هدفه وضع اليد على لبنان عن طريق الاستثمار في المواجهة بين المسيحيين والفلسطينيين، الذين تحوّلوا إلى جيش المسلمين في لبنان، للأسف الشديد.

باستثناء ريمون إده، سقط جميع السياسيين المسيحيين، بمن فيهم كميل شمعون وبيار الجميّل، في لعبة حافظ الأسد. سقط معهم عدد كبير من السياسيين المسلمين. كان في مقدّمة هؤلاء الدرزي كمال جنبلاط الذي لم يدرك إلّا متأخرا أنّه دخل “السجن العربي الكبير”. دفع كمال جنبلاط غاليا ثمن استفاقته المتأخّرة. قتله النظام السوري عندما أدرك أنّه يتّجه إلى مصالحة مع العدوّ اللدود، المنادي باستقلال لبنان وسيادته، الذي اسمه بشير الجميّل.

حاول إده تفادي توقيع اتفاق القاهرة. حاول باكرا، الإتيان بقوّة دولية ترابط في جنوب لبنان. خوّنه كثيرون. كان هؤلاء من الجهلة المنتمين إلى بعض الأحزاب اليسارية أو إلى البعثيْن العراقي والسوري، اللذين تنافسا في المزايدات على لبنان واللبنانيين في سياق عملية صبّت في متاجرة حكام دمشق وبغداد بالورقة الفلسطينية.

لم يرَ ريمون إده يوما سوى مصلحة لبنان. كان من القلائل الذين رفضوا أن يكونوا تحت رحمة الطموح السياسي. كان فوق ذلك. كان صادقا مع نفسه قبل أيّ شيء آخر. كان يحترم نفسه. لم يأت بعده سياسي مسيحي في هذا المستوى، غير نسيب لحود الذي أنصفه الرئيس ميشال سليمان في بداية عهده عندما عيّنه وزيرا.

مرّ على لبنان سياسيون كثيرون. سيمرّ كثيرون. هناك مدرسة تضع مصلحة لبنان فوق أي مصلحة أخرى. قلائل ينتمون إلى هذه المدرسة التي ينتمي إليها الرؤساء رفيق الحريري وصائب سلام وتقيّ الدين الصلح ورينيه معوّض. لم يبق حيّا من أبناء هذه المدرسة سوى الرئيس حسين الحسيني، أطال الله عمره.

أن يكون في بيروت شارع يحمل اسم ريمون إده، تكريم لبيروت. ريمون إده يكرّم بيروت التي أعاد رفيق الحريري بناءها، كما أعاد الحياة إليها. لذلك، لم يكن ريمون إده يوما في الجانب المعادي لرفيق الحريري، على الرغم من أنّ كثيرين كانوا يحرّضونه على ذلك. كان مع “الرفيق” دائما. كان سياسيا من طينة أخرى، جاء تكريم بيروت له تكريما لها لا أكثر ولا أقل. جاء التكريم متأخّرا. ولكن أن يأتي متأخّرا أفضل من ألا يأتي التكريم أبدا.

لن يدرك اللبنانيون للأسف الشديد القيمة الحقيقية لريمون إده يوما، كما لن يدركوا قيمة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، بطل الاستقلال الثاني الذي لم يكتمل، والذي أسّس له ريمون إده بوقوفه في وجه كلّ من أيّد اتفاق القاهرة قبل أقلّ بقليل من نصف قرن.

 

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بيروت تكرم نفسها عبر ريمون إده بيروت تكرم نفسها عبر ريمون إده



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 19:19 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

مراهق فلبيني يدخل فرّامة كفتة لتنتهي حياته

GMT 20:36 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

أفضل أنواع وتصميمات الأحذية الرياضية وطرق العناية بهما

GMT 05:00 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

مجلس الشيوخ الأميركي يقر تعيين أول مسؤول في إدارة بايدن

GMT 05:13 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

نظام غذاء سري لأكبر أنواع أسماك القرش في العالم

GMT 06:08 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يعزز صدارته بفوز شاق على شيفيلد يونايتد

GMT 12:01 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

رونار وفكر الثوار

GMT 19:05 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 10:09 2021 الجمعة ,02 إبريل / نيسان

Isuzu تتحدى تويوتا بسيارة مميزة أخرى

GMT 18:28 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

مجلس الشعب السوري ينفي إصدار بطاقات هوية جديدة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia