إنّه البرلمان

إنّه البرلمان...

إنّه البرلمان...

 تونس اليوم -

إنّه البرلمان

حازم صاغية
حازم صاغية

في هذا العام الجديد، 2021، سيتمّ التذكير بثلاث بدايات لثلاثة عقود: قبل ثلاثين سنة، في 1991، حين هُزم الانقلاب الشيوعي في الاتّحاد السوفياتي السابق. قبل عشرين سنة، في 2001، حين نفّذت «القاعدة» جريمة 11-9 في نيويورك وواشنطن. قبل عشر سنوات، في 2011، حين تلاحقت الثورات العربيّة بعد باكورتها التونسيّة أواخر العام الذي سبق.
البرلمان، كرمز للديمقراطيّة، كان حاضراً في هذه الأحداث الكبرى الثلاثة، إمّا مباشرة أو مداورة.
في 1991، هُزم الانقلاب أمام البرلمان. بوريس يلتسن يومها اعتلى الدبابة في صورة باتت أيقونيّة. الجماهير نزلت إلى الشارع وأقامت المتاريس. الجيش بدا غير متماسك بما يكفي لإنجاح الانقلاب.
في 2001، أراد أسامة بن لادن بانتحارييه أن يقول أشياء كثيرة، لكنّ أحد تلك الأشياء أنّ الحضارة الغربيّة، التي تدور حول الديمقراطيّة، هشّة جدّاً. تفجير مبنى أو مَبنيين يفجّرانها ويقفلان الموضوع.
في 2011، هبّت ثورات «الربيع العربيّ» تطالب بالبرلمان والديمقراطيّة. أرادت، ولو متأخّرة جدّاً، أن تكسر «الاستثناء العربيّ» الشهير.
أمّا اليوم، في 2021، فالبرلمان بات موضوعاً أميركيّاً. لقد حصل ما حصل في البلد الذي لم ينقطع مساره الدستوري مرّة واحدة منذ نشأته.
في 1991، بدا الحدث الروسي مدخلاً لعالم جديد يطلب البرلمان. الاتّحاد السوفياتي وكتلته انهارا. تبنّي الديمقراطيّة تمدّد من أوروبا الوسطى والشرقيّة إلى أميركا اللاتينيّة وأفريقيا. إنهاء العنصريّة في جنوب أفريقيا، وتسوية النزاع الطائفي في آيرلندا الشماليّة رفدا هذه الوجهة. تسوية أوسلو الفلسطينيّة - الإسرائيليّة في 1993 اندرجت في السياق نفسه.
في 2001، جاءت «القاعدة» تتحدّى تلك الوجهة نفسها. جاءت تقول للذين انتصروا في الحرب الباردة إنّهم عُرضة لـ«غزوة إلهيّة».
لكنّ تحدّي البرلمان كان قد سبق ذلك، وتحديداً في المكان الذي حقّقت فيه الديمقراطيّة انتصارها الأكبر: روسيّا. يلتسن نفسه، وبعد عامين على وقفته الشجاعة، أمر بقصف البرلمان.
رمزيّة هذا الحدث الأخير نمّت عن أمرين: أنّ روسيّا، بتركيبها الاجتماعي وتقليدها في «الاستبداد الشرقيّ» غير مهيّأة بعد للديمقراطيّة. لقد سقط النظام الشيوعي من دون أن تكون هناك بورجوازيّة ومراكمة للثروة بموجب القانون. في روسيا هناك فقط أوليغارشيّو النظام القديم الذين جنوا أرباحهم وأداروا صفقاتهم بالاستناد إلى تهريب وبيع أملاك الدولة. الأمر الآخر أنّ الغرب، بدوره، لم يكن مهيّأ لمساعدة روسيا كي تسلك هذا الطريق: بيل كلينتون، مدفوعاً بتحريض القيادات الجديدة في أوروبا الوسطى المسكونة بذعر قديم من الروس، أصرّ على مدّ الناتو إلى حدود روسيا. يومذاك كان فرنسوا ميتران يؤكّد أنّ وظيفة هذا الحلف قد انتهت مع سقوط المعسكر السوفياتيّ. منذ الأربعينات، كان جورج كينان يرى أنّ «احتواء» الاتّحاد السوفياتي يلغي الحاجة إلى الناتو، فكيف وقد اضمحلّت تلك الإمبراطوريّة؟ كينان وميتران ثبت أنّهما كانا على حقّ: فالناتو على حدود روسيا هو دعم صافٍ للقوميّة على حساب الديمقراطيّة. للزعيم المخلّص على حساب البرلمان. بفضل الأوليغارشيا والناتو وُلدت زعامة فلاديمير بوتين.
الثورات العربيّة كانت، بمعنى ما، ردّاً على ما فعله ابن لادن: إنّنا نريد الديمقراطيّة والبرلمان ولا نريد ضربهما. هذه الثورات هُزمت فيما كانت الحركات الشعبويّة تحقّق انتصاراً بعد انتصار في العالم. الهجرات الجماعيّة من عالم الثورات المهزومة صبّت زيتاً على نار الشعبويّات.
عدم الثقة بالسياسة والسياسيين ضرب البلدان الديمقراطيّة نفسها: لوبين في فرنسا، وحزب البديل في ألمانيا، وبينهما إيطاليا والنمسا. دونالد ترمب حلّ في البيت الأبيض والبريطانيّون صوّتوا لـ«بريكست». الشعبويّة الظافرة وضعت قيودها الثقيلة على الديمقراطيّة والبرلمان: الإعلام والقضاء ينبغي أن يُحدّ من استقلالهما. المعارضون هم «أعداء الشعب».
انتكاس الديمقراطيّة بين 1991 و2021 أحدثته عوامل كثيرة تتعدّى الهجرة: النيوليبراليّة التي انتقمت من المسألة الاجتماعيّة برمّتها بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ. العولمة التي تَرافق ثراؤها مع تفريع وحدات الإنتاج الذي أغنى هنوداً وصينيين لكنّه أفقر أوروبيين وأميركيين. هزيمة الثورات العربيّة التي منعت العرب من كسر استثنائهم وضيّقت رقعة الحرّيّة في العالم...
كائناً ما كان الأمر لم يعد ممكناً إلاّ أن ينتقل حصار البرلمان والديمقراطيّة إلى المركز – إلى الولايات المتّحدة ذاتها. ما حصل قبل أيّام قليلة في مبنى الكابيتول يقول هذا: إنّ الديمقراطيّة، في عالم اليوم، مأزومة ومريضة. لكنّه يقول أيضاً كم أنّها قويّة وقادرة على تجاوز أزمتها. كم أنّ مؤسّساتها الدستوريّة صلبة. كم أنّ ثقافتها الديمقراطيّة حاضرة ومتينة. كم أنّ التعدّد يقاتل.
الحقيقتان المتعارضتان اصطدمت واحدتهما بالأخرى صداماً رأسياً في الكونغرس، وهما سوف تتصادمان مرّة بعد مرّة في الأعوام القليلة المقبلة، خصوصاً بعد الانتصاف الشعبي الذي كشفته نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة. أمّا الانتصار الأخير فسيكون مرهوناً بطبيعة المراجعة التي سيُجريها عهد جو بايدن لثلاثين سنة أميركيّة وثلاثين سنة عالميّة.
الأمر الوحيد المؤكّد أنّ العالم كلّه يخوض معركة البرلمان والديمقراطيّة بشكل أو آخر، وهي ليست معركة سهلة كما سبق أن تسرّع المتفائلون.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنّه البرلمان إنّه البرلمان



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:21 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجدي الخميس 29-10-2020

GMT 14:05 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الأسد الخميس 29-10-2020

GMT 08:29 2021 الجمعة ,07 أيار / مايو

مسلسل ''حرقة'' أفضل دراما رمضانية في تونس

GMT 05:48 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

اكتشاف تقنية جديدة تساعد في إنقاص الوزن الزائد

GMT 05:31 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

البردقوش فوائده واستخدامه

GMT 00:15 2016 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد الشطة لعلاج مرض الصدفية

GMT 10:54 2013 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ندوة عن القبول في جامعات الولايات المتحدة في "أميركية دبي"

GMT 09:15 2021 الأربعاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أيتام «داعش» مَنْ يعينهم؟
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia