سوريّة والعالم وأخلاق العالم

سوريّة والعالم وأخلاق العالم

سوريّة والعالم وأخلاق العالم

 تونس اليوم -

سوريّة والعالم وأخلاق العالم

بقلم : حازم صاغية

يصعب ألاّ يُرى ألم السوريّين قويّاً ومعبّراً، بل صافعاً للوجوه وفاقئاً للأعين، يتجاوز الوطن السوريّ إلى ديار اللجوء الواسعة ونقاط العبور إليها. ويصعب ألاّ يُرى بشّار الأسد بوصفه الصانع الأوّل لذاك الألم، قتلاً وتهجيراً وإذلالاً، هو الذي لا يجيد من الصناعات إلاّ التفنّن في إيلام مواطنيه. لكنْ يصعب أيضاً ألاّ يُرى ذاك الهزال الذي يسم تجاوب العالم مع ألم السوريّين، المقيمين منهم واللاجئين، ومع المسؤوليّة الأولى عنه. فهو وصمة على جبين إنسانيّتنا عموماً، وعلى جبين أقويائها وقادريها في شكل خاصّ.

ومفهوم جدّاً، حيال هذه الدراما الإنسانيّة الإرهب منذ الحرب العالميّة الثانية، أن تسود حالة سوداويّة ومتشائمة في أوساط السوريّين والمتعاطفين معهم في مأساتهم. لكنْ يصعب، في المقابل، ألاّ يُرى من هذه الإنسانيّة المتقاعسة إلا الوصمة التي على جبينها.

وهذا فضلاً عن أنّ تحويل السوداويّة إلى موقف قاطع إنّما يعلن انسداد أبواب الكون تماماً في وجوهنا، كما يعلن انسداد أبواب السياسة. وهو قد يعزّز ذاك الخليط الجامع بين الرومنسيّة القوميّة الجريح والعدميّة الأصوليّة الجارحة، وللإثنتين تقاليد عريقة لدينا.

فالعالم، فضلاً عن الوصمة السوريّة التي تحتلّ بعض جبينه، وعن وصمات أخرى كصعود دونالد ترامب وشعبيّة بعض قوى اليمين الأوروبيّ المتطرّف، فضلاً عن اللاعدالة المتفاقمة في توزيع ثروات العولمة، تقيم في جبينه مساحات أخرى. فهو أيضاً حيث انتُخب في لندن رئيس بلديّة مسلم في ذروة صعود الإسلاموفوبيا، وقبل ذاك كان انتخب في الولايات المتّحدة مرشّح أفرو أميركيّ ونصف مسلم لرئاسة الجمهوريّة، وهذا بغضّ النظر عن الرأي في سياساته الخارجيّة والسوريّة. وفي مقابل المواقف العنصريّة حيال اللاجئين، ظهرت ردود فعل شعبيّة ومضيئة، كما ظهرت سياسات شجاعة كالتي اتّبعتها المستشارة الألمانيّة أنغيلا مركل.

بمعنى آخر، لم يُغلق كتاب التاريخ ولم يُكتب فصله الأخير، فيما الحرب لا تزال على جبهات كثيرة سجالاً، واحتمالات السياسة وتغيّر الحكّام والإدارات عبر العمليّة الانتخابيّة احتمالات مفتوحة دوماً.

وهذا لا يحدّ بالطبع من الألم السوريّ الراهن، لكنّه قد يقي من نظرة لا ترى إلاّ الوصمة، فتكرّر بهذا تلك النظريّة التي أسّستها الثورة الفلسطينيّة حين أكّدت أنّ «الموقف من دول العالم يتقرّر على ضوء موقفها من قضيّة فلسطين».

وبدورها فالنظريّة هذه لم تخفّف الألم الفلسطينيّ، وهي قد تضع صاحبها في تعارض تستحيل معه رؤية العالم كما هو، وتحديد الاصطفاف على ضوء المعايير التي تخصّ أوّلاً أبناء البلد المعنيّ. فقد سبق، في ظلّ النظريّة الأحاديّة، أن تعاطف معظم العرب مع المحافظين ضدّ العمّال في بريطانيا، ومع الديغوليّين ضدّ الاشتراكيّين في فرنسا، ومع الجمهوريّين ضدّ الديموقراطيّين في الولايات المتّحدة، ظنّاً منهم أنّ الأوّلين «أصدقاء العرب» فيما خصومهم «أصدقاء إسرائيل».

واليوم يُخشى أن يبدو رجب طيّب أردوغان «صديق الشعب السوريّ»، بما يثير مشكلة لا بدّ من تفكيرها ومواجهتها، فيما نحن نتألّم. والحال أنّ مشكلة كهذه تطاول طرفي العلاقة ولا تقتصر على نعي العالم: كيف، من جهة، تُدفع الأطراف المتقدّمة في بلدانها إلى موقف أرفع أخلاقيّاً حيال المأساة السوريّة، يكون في الآن نفسه أشدّ إدراكاً لمسألة الاستبداد ومركزيّتها، وكيف، من جهة أخرى، يرتقي العمل الثوريّ، في سوريّة وفي أيّ مكان آخر، إلى الجمع بين مكافحة الاستبداد ومعانقة التقدّم بما يغري العالم؟

أمّا الحجّة التي لا يملك المرء إلاّ أن يلوذ بها فهي أنّ ما من عالم آخر، أشدّ أخلاقيّة وأرفع حسّاً إنسانيّاً، يمكن الفرار إليه!

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سوريّة والعالم وأخلاق العالم سوريّة والعالم وأخلاق العالم



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia