في أنّنا نعيش في عالم مسحور

... في أنّنا نعيش في عالم مسحور

... في أنّنا نعيش في عالم مسحور

 تونس اليوم -

 في أنّنا نعيش في عالم مسحور

حازم صاغية
بقلم : حازم صاغية

في الحقبة التي طغت فيها اللغة القوميّة المشوبة بيساريّة ما، كان الكثير من البيانات والمُخاطَبات يبدأ بالعبارة التالية: «إنّ الهجمة الشرسة التي تتعرّض لها أمّتنا وشعبنا...». أي بلغة الحكايات الشعبيّة: جاء الذئب. الذئب هاجم علينا...في الحقبة التي طغت فيها لغة الإسلام السياسيّ، وهي لا تزال مستمرّة، بتنا نحن من يهجم على الذئب. ذاك أنّ «زمن الهزائم ولّى»، وفق العبارة الشهيرة للأمين العام لـ«حزب الله» اللبنانيّ.
القاسم المشترك بين اللغتين، وهناك قواسم مشتركة كثيرة بين أصحابهما، أنّنا نلاعب ذئباً، نقول مرّةً إنّه سيهجم علينا ويصرعنا ثمّ لا يفعل، ونقول مرّة أخرى إنّنا نحن من سيهجم عليه ونصرعه لكنّنا لا نفعل.
قبل أشهر قليلة فقط، انفجرت بنا مقالات وتصريحات بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، بعضها لسياسيّين وكتّاب وبعضها لصحافيّين أو أدباء، مدارها أنّنا نصرع الذئب.
في ما يلي عيّنات قليلة جدّاً عمّا نُشر وقيل يومذاك:
«... توحّدت فلسطين من جديد، وامّحت الحدود الجغرافيّة بين القدس والضفّة وغزّة والجليل والمثلّث والنقب والشتات».
«في المعركة التي تشهدها أرض فلسطين انطلاقاً من الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح، إلى الضفّة الغربيّة والأراضي المغتصبة عام 1948، مروراً بغزّة التي تحوّلت رغم مساحتها المحدودة والحصار الخانق المفروض عليها منذ 15 عاماً إلى قاعدة صلبة لمقاومة متنامية ضدّ الاستعمار، نشهد بداية مرحلة جديدة تؤذن بأفول دولة الكيان وتبشّر باقتراب حلم التحرير».
«يحقّ للمقاومة والشعب في قطاع غزّة، ويحقّ لشباب فلسطين وجماهيرها داخل حدودها التاريخيّة، وفي كلّ بلدان اللجوء، أن يرسموا علامة النصر ويعلنوا النصر بعد وقف إطلاق النار بلا قيد أو شرط».
«هذا التأكيد على الانتصار لا يصدر عن وهم ولا مبالغة ولا رفعاً للمعنويات؛ وإنّما هو مستند إلى وقائع تجسّدت على الأرض وفي ميادين المواجهات طوال شهر رمضان المبارك وما بعده حتى اليوم (...) بهذا تحقّقت وحدة شعب فلسطين في الداخل الفلسطينيّ وفي الخارج، تجاوزاً وتحدّياً لكلّ ما قام به الاحتلال منذ نكبة 1948 من اقتلاع وتجزئة لفلسطين وشعبها».
«إنّ القدس بلا ريب باتت أقرب».
إنّ العدوّ الإسرائيليّ «في طريقه إلى الانهيار».
أقلّ من ستّة أشهر تفصلنا عن تلك الكلمات أعلاه، علماً بأنّ ستّة أيّام فقط كانت أكثر من كافية لتبيان ما فيها من تهافت. لكنّ الذين أعلنوا آنذاك تضامنهم وتأييدهم لأهل الشيخ جرّاح وقطاع غزّة وأراضي الـ48، من غير أن يقولوا إنّ إسرائيل في طريقها إلى الانهيار، أو إنّ فلسطين ستُبعث موحّدةً من جديد، حُسبوا أعضاء في معسكر الذئب، هاجماً كان أم مهجوماً عليه.
والحال أنّ من السهل دوماً ردّ كلام المتكلّمين أولئك إلى الإحباط والشعور العميق بالهزيمة، ومن السهل أيضاً تقدير عدم احترامهم عقول الناس الذين يخاطبونهم، أو التدليل على تأثّرهم العميق بطريقة في المخاطبة تحتقر المعرفة بقدر ما تحتقر الناس. ما هو أبعد من ذلك أنّ اللغة السياسيّة السائدة هذه تتحوّل، منذ مدّة لم تعد قصيرة، إلى طريقة حياة تتكاثر البراهين عليها. فنحن، مثلاً، ننتصر فيما الطائرات الإسرائيليّة توالي ضرباتها في سوريّا، وعلينا أن نقتنع بأنّ مصالح لبنان ليست مع دول الخليج بل مع إيران، وأنّ عهد ميشال عون «عهد قويّ». أمّا نظام بشّار الأسد فحقّق في السنوات القليلة الماضية عدداً من المكتسبات الباهرة لشعبه وبلده!
ولأنّ العيش في عالم مسحور يتطلّب التسليم بالسحر، فإنّ من يقول كلاماً مخالفاً لا ينتمي إلاّ إلى الشيطانيّ. ذاك أنّ تفتيت الثقة بالواقع وبالحقيقة يسير يداً بيد مع تفتيت الثقة بين كلّ مواطن وآخر. هكذا نعيش في عالم من صلصال ليس فيه شيء صلب، عالمٍ يعجّ بالعملاء والجواسيس والمعلومات المضلّلة والنوايا الشريرة التي تتربّص بنا.
في كوريا الشماليّة مثلاً يقال دحضاً لوقائع الحياة هناك أنّها أكاذيب كوريّة جنوبيّة. الاتّحاد السوفياتيّ ظلّ يردّ كلّ معلومة صائبة عنه إلى «فبركة السي أي آي» و«الدعايات المضلّلة للإعلام الرأسماليّ»، وهكذا استمرّ حتّى سقوطه.
هذا العيش في عالم مسحور أو عالم خياليّ، تهفو إلى مثله السينما، ليس بالشيء البريء. من يصدّق هذا النهج، ويدير ظهره إلى العالم الفعليّ، مواطن مثاليّ في نظام استبداديّ. إنّه عابدٌ مثاليّ لزعيم تتعادل عنده السياسة والسحر.
لقد كان خبراً كاذباً هجومُ الذئب علينا حين قيل أنّه هجم. وهو يبقى خبراً كاذباً حين يقال أنّنا نهجم على الذئب.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 في أنّنا نعيش في عالم مسحور  في أنّنا نعيش في عالم مسحور



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:21 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجدي الخميس 29-10-2020

GMT 14:05 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الأسد الخميس 29-10-2020

GMT 08:29 2021 الجمعة ,07 أيار / مايو

مسلسل ''حرقة'' أفضل دراما رمضانية في تونس

GMT 05:48 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

اكتشاف تقنية جديدة تساعد في إنقاص الوزن الزائد

GMT 05:31 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

البردقوش فوائده واستخدامه

GMT 00:15 2016 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد الشطة لعلاج مرض الصدفية

GMT 10:54 2013 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ندوة عن القبول في جامعات الولايات المتحدة في "أميركية دبي"

GMT 09:15 2021 الأربعاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أيتام «داعش» مَنْ يعينهم؟
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia