كيف لا يكون الحاكم حاكماً

كيف لا يكون الحاكم حاكماً؟

كيف لا يكون الحاكم حاكماً؟

 تونس اليوم -

كيف لا يكون الحاكم حاكماً

حازم صاغية
بقلم :حازم صاغية

بين الأساطير والخرافات فوارق كثيرة قد يكون أهمّها التالي: إنّ الأساطير تنجب الخارق الذي يأتي ما لا يستطيعه البشر، سلباً كان ذلك أم إيجاباً. لا نصدّق ما يُنسب إليه لكنّه يدهشنا، وقد يستثير تمجيدنا، وقد يحرّك مخيّلاتنا، وهو يمثّل لأدباء وفنّانين حالات وأنماطاً مثلى من السلوك الإنسانيّ. ومن يدري، فالأسطورة قد تخاطب طموحات متضخّمة لدى بعضنا وقد تُغريهم بالتقليد. الخرافات، في المقابل، تنجب ما لا يصدّقه البشر لأنّ وجوده يتحدّى عقلهم. أحياناً تُضجرهم. أحياناً تسلّيهم أو تُضحكهم، إلاّ أنّ مُتلقّيها يمرّون عليها مرور الكرام ويمضون في سبيلهم.
أن تقول لواحد: أنت خرافة، فهذا إهانة وشتيمة وتشكيك في وجوده. أن تقول له: أنت أسطورة، فهذا مديح وتكثير لوجوده.
عهد نابليون أسطورة. عهد ميشال عون خرافة...، لا بمعنى أنّه لم يحصل، بل بالضبط لأنّه حصل. كيف يمكن أن يحصل؟ هل تغدو الخرافة واقعاً جاثماً على صدورنا؟
يعبّر عن الحالة هذه ذاك التساؤل الذي بات اللبنانيّون غالباً ما يستهلّون به كلامهم: «هل يُعقَل؟». هل يُعقَل أن ينهار كلّ شيء ولا يستقيل رئيس الجمهوريّة؟ هل يُعقَل أن يؤدّي تمسّكه بـ «الثلث المعطّل» إلى كلّ هذا التعطيل لتشكيل الحكومة؟
كيف نفهم ميشال عون والحال هذه؟ كيف نفسّره؟ كيف نتدبّره؟
يبدأ طلّاب العلوم السياسيّة دراستهم تلك المادّة بالإيطاليّ نيكولو ماكيافيللي والفرنسيّ جون بودان: الأوّل لنظريّته في فصل أخلاقيّة السياسة عن الأخلاقيّات بمعناها الشائع، والثاني بسبب نظريّته في السيادة.
يمكن اقتراح بداية مختلفة لدراسة العلوم السياسيّة يطغى فيها التطبيق العمليّ على الاجتهاد النظريّ، على أن تُشتَقّ الخلاصات النظريّة من ذاك التطبيق في وقت لاحق. يمكن، في حالة الطلّاب اللبنانيّين مثلاً، اقتراح كتيّب تعليميّ يكون دليلاً (manual) يُرشد الطلّاب الجدد إلى كيف لا يكون الحكم حكماً، وكيف لا يكون الحاكم حاكماً، قبل أن يُستنتَج كيف يكون الحكم حكماً والسياسة سياسة. بطل هذا الكتيّب، ومن دون منازع، سيكون الرئيس اللبنانيّ الحاليّ. معه، مع رئاسته، يُبدأ بالخرافيّ، بالذي لا يمكن، فضلاً عن كونه لا يجوز، كمدخل إلى فهم نقيضه الواقعيّ الذي يمكن ويجوز.
صحيح أنّ عون ليس الصانع الوحيد للمأساة اللبنانيّة الراهنة، ولا هو الصانع الأوّل. مع هذا، وبسبب استمراره في رئاسة الجمهوريّة، فهو ممثّلها، والرمز الذي يوفّر غطاءها الشرعيّ. إنّه، رسميّاً، المسؤول الأوّل عنها والمُطالَب الأوّل بعلاجها. وبهذا المعنى، يبقى من المستغرب أن يكون انتقاده، إنْ لم يكن هجاؤه، أقلّ كثيراً ممّا تدفع إليه مأساة كهذه.
أغلب الظنّ أنّ الاقتصاد النسبيّ في النقد المكتوب عائد إلى خرافيّة الأوضاع التي ترتبط بعون. هذا ما يتولّاه الكلام الشفويّ المتخم بالانتقادات القاسية التي تتردّد في البيوت والشوارع. النصوص الكتابيّة، في المقابل، يحول العقلانيّ فيها دون امتلاك التعابير التي تصفه. فكرة البناء التي يستدعيها النصّ تطرد منها هلهَلة الخرافة.
فميشال عون هو اليوم الرئيس المضادّ لفكرة المعنى نفسها، بل للمعاني التي شاء هو ذاته أن يقدّمها كمعانٍ جليلة متماسكة: إذا قيسَ بقياس الوصف القائل إنّه «رئيس الجمهوريّة القويّ»، أو إنّه «حامي حقوق المسيحيّين ومصالحهم»، أو إنّه رمز «استعادة الدولة هيبتَها»، أو إنّه ضامن «السيادة والاستقلال اللبنانيّين»، جاء استقبال الكلام أشبه باستقبال مهزلة مصحوبة إمّا بالقهقهة المتمادية أو بالكلام البذيء. وهي النتيجة نفسها التي تداهمنا حين نتعامل مع وصفه ووصف محازبيه له كمكافح للفساد والمحسوبيّات ذات المصدر العائليّ، أو كـ «بيّ الكلّ» (أبي الكلّ) الحريص على أبنائه فرداً فرداً والبالغ الحساسيّة حيال معاناتهم.
وإذا كان مفهوماً أنّ بلداً كلبنان يستبعد الانقلاب العسكريّ، وأنّ سلاح «حزب الله» يزيد في استبعاد التغيير الشعبيّ والمدنيّ، ظلّ من المدهش أنّ الموقع الذي يحتلّه عون، نيابةً عن الوضع الراهن وعن فداحة مأساته، لا يسنده حدّ أدنى من الكاريزما. لا هو عبد الناصر ولا بيرون، ولا حتّى حافظ الأسد. إنّ هذا الرجل بمواصفات شديدة التواضع يفعل ما يفعله!
لقد بات رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة يشخصن عدداً من الافتقارات والنواقص التي يرفدها سجلّ سياسيّ شديد التقلّب، وهو ما بات معروفاً جيّداً. صحيح أنّه ليس كلّ المشكلة، ولا هو أصل المشكلة، لكنّ استقالته لو تمّت لوفّرت مدخلاً لمعالجتها، أو حتّى لترقيعها. معه، يبدو الترقيع، حتّى الترقيع، صعباً جداً.
هذا بالفعل درس باهر في كيف لا تكون السياسة سياسة، ولا الحكم حكماً، فيما يكونان فعليّاً كذلك. وهو درس في كيف تستطيع الخرافة أن تتربّع في قصر جمهوريّ.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كيف لا يكون الحاكم حاكماً كيف لا يكون الحاكم حاكماً



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:21 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجدي الخميس 29-10-2020

GMT 14:05 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الأسد الخميس 29-10-2020

GMT 08:29 2021 الجمعة ,07 أيار / مايو

مسلسل ''حرقة'' أفضل دراما رمضانية في تونس

GMT 05:48 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

اكتشاف تقنية جديدة تساعد في إنقاص الوزن الزائد

GMT 05:31 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

البردقوش فوائده واستخدامه

GMT 00:15 2016 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

فوائد الشطة لعلاج مرض الصدفية

GMT 10:54 2013 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ندوة عن القبول في جامعات الولايات المتحدة في "أميركية دبي"

GMT 09:15 2021 الأربعاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أيتام «داعش» مَنْ يعينهم؟
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia