حقوق الإنسان بعد هزيمة الثورات العربيّة

حقوق الإنسان بعد هزيمة الثورات العربيّة

حقوق الإنسان بعد هزيمة الثورات العربيّة

 تونس اليوم -

حقوق الإنسان بعد هزيمة الثورات العربيّة

بقلم : حازم صاغية

لم تكن مرّةً حقوق الإنسان مصانة في هذه الرقعة من العالم. لم تكن مرّةً أمراً محترماً، أو جدّيّاً. لكنّها لم تكن مرّةً مداسة ومنتهكة كما حالها اليوم. ولم يكن مرّةً دوسها وانتهاكها منتشرين على رقعة في ضخامة الرقعة التي ينتشران عليها حاليّاً.

ذاك أنّ الشعوب العربيّة التي طلبت الحرّيّة هُزمت، وبهزيمتها هُزمت الحرّيّة نفسها بوصفها حقّ الحقوق الإنسانيّة وقاعدتها والمدخل إليها. وكلّ شيء يوحي الآن أنّ ميلاً ثأريّاً يستجمع نفسه لينقضّ بالقمع على الشعوب والحرّيّات والحقوق. حتّى البلدان التي لم تشهد ثورات، ولم تلفحها بالتالي ثورات مضادّة، أصيبت بالعدوى من البلدان التي تنتقم فيها الثورات المضادّة من الثورات.

فأقفاص الاتّهام العابرة للحدود الوطنيّة لم تتّسع من قبل لهذا العدد الكبير من المشبوهين.

 صحافيّون كتبوا آراء مخالفة، وشبّان وشابّات عبّروا عن مواقف مغايرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو دافعوا عن الحرّيّات، أكانت سياسيّة أو دينيّة أو جنسيّة، أو ناهضوا العنصريّة، أو طالبوا بمساواة الجنسين، أو عارضوا التحريض على العمالة الأجنبيّة...، هؤلاء تُكشّر في وجوههم أنياب كثيرة لسلطات كثيرة. فإذا تعبت السلطة السياسيّة، هبّت السلطات الدينيّة. وإذا تراخت الأخيرة، حضرت سلطة القوميّة ومناهضة «التطبيع» أو تخوين منظّمات حقوق الإنسان لحصولها على تمويل أجنبيّ... سلطات كثيرة تعاملنا كأنّنا مصابون بالجذام. سلطة تقتل وسلطة تسجن وسلطة تبتزّ وتشهّر.

وفي مواجهة المتّهمين هؤلاء تُستحضر أسلحة ثقيلة: الوطن والدين والعائلة والشعب والسيادة، والزعيم ورجل الدين، فضلاً عن الأخلاق والشرف والكرامة ونفسيّة الأمّة بوصفها المنظومة الرفيعة التي تقابل منظومة وضيعة من الانحراف والشذوذ والعمالة والخيانة والفردانيّة وعبادة الشيطان...

ومع ظاهرة اللجوء المليونيّة لبؤساء وضحايا، يتعزّز عند العنصريّين وأشباههم ذاك الميل، الوسخ والعريق في الآن نفسه، إلى مساواة البشر بالأرقام، إن لم يكن بالحشرات. كما تشتدّ الرغبات والمساعي إلى هندسات اجتماعيّة تفرز «المفيد» عن «غير المفيد» بشراً وحجراً.

وهذا إنّما يتصاحب مع تحوّلين بارزين في عالمنا المعاصر: ذاك أنّ صعود الشعبويّات القوميّة كسر ويكسر «الإنسان الكونيّ» لمصلحة «الإنسان القوميّ» أو «العرقيّ» أو «الدينيّ». وبهذا الكسر تنكسر الحقوق الجامعة لمصلحة الجزئيّات والخصوصيّات التي يقتصر اشتغالها على نطاق جغرافيّ - ثقافيّ بعينه.

أمّا من الناحية الأخرى، ومع انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتّحدة، فيُرجّح أن يتقلّص الضغط على حكّام مستبدّين في «العالم الثالث»، بحيث يسرح هؤلاء الأخيرون ويمرحون على هواهم بوصفهم الممثّلين الحصريّين والمطلقين لسيادة وطنيّة لا تُمارَس إلاّ معساً لشعوبهم ومواطنيهم.

يرقى ذلك كلّه إلى ارتداد عن الإلزام النظريّ بـ «حقوق الإنسان» كما ظهر بعد الحرب العالميّة الثانية، ليكتسب شيئاً من الفعاليّة مع عهد جيمي كارتر أواخر السبعينات.

 فاليوم، حتّى تريزا ماي، رئيسة الحكومة البريطانيّة التي ربّما كانت «ألطف» الصفّ الجديد من قادة زمننا، ترى أنّ المواطنة الكونيّة مواطنة في لا مكان. وبالتدريج تتحوّل نظريّة كنظريّة ماي بديلاً مزدهراً عن السعي الذي ساد قبلاً، لا سيّما في كنف الاتّحاد الأوروبيّ، إلى التوفيق بين الانتماءين الوطنيّ والكونيّ. أمّا الاتّحاد نفسه، بوصفه رابطة طوعيّة عابرة للحدود القوميّة، فيغدو مهدّداً بالتصدّع.

فكأنّنا مدفوعون دفعاً إلى المجادلة التي جادلتها أوروبا في القرن السابع عشر، بلسان الإنكليزيّ جون لوك: ذاك أنّ للبشر «حقوقاً طبيعيّة»، وحتّى في حالة الطبيعة يكون الأفراد كائنات أخلاقيّة، لكنّهم إذ يغادرون تلك الحالة لا يتنازلون إلاّ عن سلطات محدودة للحكومة التي ينشئونها. فإذا تنازلوا أكثر، عُدّ الأمر إخلالاً بـ «الحقوق الطبيعيّة» للرعايا.

ونحن اليوم، وعلى مساحة طويلة عريضة، مدعوون إلى أن نتنازل أكثر فأكثر فأكثر...

المصدر: صحيفة الحياة

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حقوق الإنسان بعد هزيمة الثورات العربيّة حقوق الإنسان بعد هزيمة الثورات العربيّة



GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 07:47 2021 الأحد ,05 كانون الأول / ديسمبر

تعيير «الليبراليّين اللبنانيّين» المسموم

GMT 08:18 2021 الأحد ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها...

GMT 07:51 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تتغيّر سوريّا و«تعتدل»؟

GMT 08:13 2021 الأحد ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان الـ 2021 غير لبنان الـ 89

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia